النخلة العراقية.. ذاكرة حرب وكبرياء
يشكل "الزهدي" (أحد أنواع التمور) أكثر من نصف المنتج الكلي للنخلة العراقية فيما يليه الخستاوي والخضراوي والساير والديري
عند نخلة شاهقة إلى السماء، وسط بستان يكتظ بالباسقات طلعهن، يريح أبا سعد بدنه المتعب بتراكم السنين وحصاد الأرض وهو يلوح بطرف عينيه إلى أعالي السماء متفحصاً عن بعد التمور المعلقة في رقاب الشجر وهي تتدلى كأقراط عروس غاوية بالحسن
مزارع من قضاء الخصيب، عند أقاصي جنوبي العراق في البصرة، يحتكم على أرض شاسعة مترامية الأطراف، تتزاحم النخيل على أديمها الذي تشم من نفحات ترابه عصراً سحيقا يروي حكايات بلاد ملئها الخير والثمر.
يستند المزارع البصراوي على جذع نخلة معتقة يتجاوز عمرها الـ50 عاما، وهي لا تزال شاهدة على حوادث المحن إبان اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وأصوات القاصفات الجوية عندما كانت تلك المناطق بقع موت لمن أراد البقاء.
يروي لنا الرجل الستيني حقباً من حكايات النخيل ومواسم من الازدهار وأخرى من الانتكاس والتراجع. يقول: "خير تلك البساتين يغني العراق وأهله لو كانت هنالك حلول للاقتصاد".
يتحدث أبا سعد، وهو من قرية جيكور التي تحاذي المياه في أكثر من جانب، عن زمن ذهبي كانت أشجار النخيل في أوج عطاها وأعدادها وثمارها قبل أن تأتي الحروب لتسقط الملايين منها بنيران الإهمال والتجريف وهجر الأحبة.
وقرية جيكور هي إحدى القرى التابعة لقضاء أبي الخصيب، بمحافظة البصرة، اقصى جنوبي العراق، تشتهر بزراعة النخيل بأنواعه مثل "الحلاوي والبريم والزهدي والجوزي والخستاوي والبرحي"، ويطل "القضاء" على شط العرب من بدايته حتى نهاية حدوده الإدارية مع الفاو.
يشكي صاحب بستان النخيل من الإهمال الحكومي طيلة الفترات السابقة التي أسهمت في هجرة الفلاحين وأصحاب أراضي النخيل بعد تراجع مستويات إنتاج التمور وتضاؤل كميات الثمار.
ورغم ذلك يؤكد في حديثه لـ"العين الإخبارية"، أن الموسم الحالي كان أفضل المواسم مقارنة بالسنوات التي تلت سقوط النظام بعد عام 2003، إلا انه لا يزال بعيداً عن الأرقام التي حققتها بساتين النخيل خلال العقود الستينية والسبعينية من القرن الماضي.
ويلفت إلى أن "النخيل ليس بكثرة أعداده وإنما بطبيعة فسائله المزروعة، فالكثير منها اليوم تقادمت عليه السنين وبات عقيم الثمار وهو ما يفرض على المعنيين الالتفات إلى هذا الأمر".
وكان العراق قبل اندلاع الحرب مع إيران يحتل المراكز الأولى في تصدير التمور عالمياً بعد وصول عدد النخيل فيه إلى أكثر من 32 مليون نخلة.
وبحسب آخر الإحصائيات لعام 2019، يمتلك العراق أكثر من 17 مليون نخلة، تتوزع في 11 محافظة، هي: ديالى، الانبار، بغداد، بابل، كربلاء، واسط، صلاح الدين، النجف، القادسية، المثنى، ذي قار، ميسان، البصرة.
وتأتي ديالى في المرتبة الأولى بعدد نخيلها بواقع أكثر من 2.5 مليون نخلة، وبابل ثانيا بأكثر من مليونين و300 ألف نخلة، وبغداد ثالثا بمليونين و187 ألف نخلة.
وفي زاوية أخرى، يتحدث المزارع "الشيخ أبوعلي"، لـ"العين الإخبارية"، وهو من مدينة الحلة، مركز محافظة بابل، ويؤكد أن إنتاج التمور رغم تراجع أعداد النخيل لا يزال يغطي السوق العراقية ويكفي منه إلى التصدير بكميات كبيرة، غير أن المستورد الأجنبي خلال الفترات السابقة، وخصوصا الإيراني، أسهم بشكل كبير في التغطية على الناتج المحلي.
وأصدرت وزارة الزراعة العراقية في 16 أغسطس/ آب الماضي، توضيحا بشأن ما أعلنته إيران حول نمو قيمة صادراتها من التمور إلى العراق بأكثر من 9 ملايين دولار خلال الربع الأول من العام الحالي.
وأكدت الزراعة العراقية، أن دخول التمر الإيراني إلى البلاد "غير رسمي، ويندرج ضمن التهريب الحاصل على الحدود".
ويتابع الشيخ أبوعلي حديثه قائلا: "تلك التحديات والعراقيل، إضافة إلى عدم توفير الأسمدة والمضادات، دفعت بالكثير من أصحاب البساتين إلى بيع أجزاء كبيرة من تلك الأراضي وتحويلها إلى أرض سكنية وهو ما تسبب بفقدان العراق ملايين النخيل".
وفي مطلع الشهر الحالي، أعلنت وزارة الزراعة العراقية، بدء موسمها لتصدير التمور إلى خارج البلاد عن طريق القطاع الخاص، متوقعة أن يصل حجم تصديرها إلى نحو 700 الف طن بعد أن سجل العام الماضي نحو 639 ألف طن من التمور.
ويعلل الخبير والعضو السابق في اللجنة الزراعية الحكومية، عادل المختار، أسباب تراجع قطاع التمور في الأسواق العالمية إلى عدم الالتفات الكافي من قبل الجهات المعنية بهذا الجانب الاقتصادي المهم، والذي افضى إلى تراجع الإنتاجية على مستوى النخلة الواحدة إلى 50 كجم من التمور بعد أن كانت تصل مستويات إنتاجها إلى أكثر من 200 كجم سنويا، قبل أكثر من 3 عقود.
ويقول المختار لـ"العين الاخبارية": "توفير الآليات والمعدات الحديثة التي تداخل في زراعة النخيل وطرق تعفيره وتلقيحه وإدامته من شأنها أن تعود بمستويات الإنتاج إلى نسب متقدمة".
فيما يؤكد حميد النايف، المتحدث باسم وزارة الزراعة، توفير الكثير من التسهيلات إلى المزارعين والخدمات الكفيلة بالنهوض بالقطاع الزراعي وخصوصا في مجال زراعة النخيل. مستدركا بالقول: "رغم أنها لم تكن بمستوى يلبي الطموح ولكن ضمن الإمكانيات المتاحة للوزارة".
ونفذت وزارة الزراعة حملة كبيرة بدأتها في عام 2008 للقضاء على حشرة الدوباس والحميرة التي فتكت بالنخيل العراقي، وأعلنت في وقت سابق أنها حققت نسب إنجاز تقترب من 85%.
ويتابع لـ"العين الاخبارية": "عمدت الوزارة إلى إكثار أعداد النخيل والفسائل ضمن خطة بدأتها قبل سنوات بهدف زيادة الأعداد مع مراعاة الجوانب النوعية وليست الكمية فقط، فضلاً عن الضغط على الجهات الحكومية بمنع الاستيراد الأجنبي من التمور وبعض الخضروات، وقد أسهم ذلك في ارتفاع مستوى الانتاج لهذا العام".
وبشأن اعتماد القطاع الخاص في عملية التصدير للموسم 2020، أوضح النايف أن "الوزارة وضعت استراتيجية مختلفة بعكس المعمول به منذ سنوات، حيث كانت تجري عمليات التصدير عبر المؤسسة الحكومية المتمثلة بشركة التمور العراقية".
وأوضح أن "المبالغ التي تدفعها شركة التمور العراقية إلى الفلاحين لا تتجاوز الـ200 ألف دينار للطن الواحد كقيمة شراء، فيما تتجاوز أسعار ذلك من قبل القطاع الخاص التي تصل إلى أكثر من 600 ألف دينار للطن الواحد، وهو ما حدى بأن تكون عملية التصدير عبر تلك القنوات".
ويشكل "الزهدي"، أحد أنواع التمور، أكثر من نصف المنتج الكلي للنخلة العراقية فيما يليه الخستاوي والخضراوي والساير والديري فضلاً عن الأنواع الأخرى.
aXA6IDMuMTM2LjE5LjIwMyA=
جزيرة ام اند امز