في العشرين من يناير الماضي أكمل الرئيس الأمريكي جو بايدن عاما كاملا داخل "البيت الأبيض".
وهي فترة عادة ما تكون كافية للحكم ليس فقط على العام المنصرم من سياسات الرئيس الأمريكي داخليا وخارجيا، لكن أيضا في استشراف ما سيكون عليه مستقبل هذه السياسات خلال السنوات الثلاث المقبلة، فكيف كانت هذه السياسات، لا سيما على الصعيد الخارجي الذي يعنينا أكثر من غيره؟
دخل جو بايدن "البيت الأبيض" في ظروف قد تبدو صعبة داخليا، بسبب الأجواء التي صاحبت الانتخابات، التي جاءت به للمكتب البيضاوي، والتشكيك الذي تم في نزاهتها، وما تلاها من هجوم على مبنى الكابيتول في السادس من يناير 2021، وما أحدثه من جرح عميق في النسيج الأمريكي.
لكن هذه الظروف، رغم صعوبتها، أكسبته شعبية مجانية مسبقة حتى قبل أن يباشر مهام عمله، وأعطته رصيدا من تأييد مسبق لم يُبنَ على قرارات اتخذها ولكن افتراضا من تمايز واختلاف عن سلفه الذي وُجّهت إليه وحده سهامُ النقد ووًجهت إليه أصابع الاتهام بالمساس بهيبة أمريكا وصورتها الخارجية.
لم يكن مطلوبا من "بايدن" سوى شيء واحد، وهو ألا يكون دونالد ترامب، وهي ربما تكون أسهل مهمة لرئيس أمريكي على الإطلاق، فهل نجح في ذلك؟
دخل بايدن "البيت الأبيض" باعتباره الرئيس المنقذ المطالب بإعادة التلاحم الاجتماعي وإنهاء الانقسام المجتمعي ورأب الصدع الذي تسببت فيه ممارسات سلفه داخليا، واستعادة هيبة أمريكا العظمى خارجيا، والتي تضررت من "مغامرات" ترامب، كما يصفها منتقدوه، وهنا يبقى السؤال: هل نجح "بايدن" في هذا الاختبار؟ هل الاثنا عشر شهرا المنصرمة من حكم إدارته وما اتخذه فيها من سياسات داخليا وخارجيا تعطي أمثلة على هذا النجاح أو مؤشرات على أنه في طريقه للنجاح خلال ما تبقى من حكمه بشكل يجعلنا نجزم أن "بايدن" أفضل من "ترامب"؟ أو نتنبأ بأنه في طريقه ليكون الأفضل؟
الإجابة عن هذا السؤال تبدأ من داخل حدود الولايات المتحدة وتنتهي خارجها، وهذا ما يهمنا أكثر.
داخليا ودون الدخول في تفاصيل كثيرة وفي إشارات ودلالات سريعة وكاشفة، يمكن القول اختصارا إن الوضع الداخلي لا يزال بالسوء نفسه، إن لم يمكن أسوأ.
فالانقسامات الأمريكية أصبحت عميقة ومتأصلة بحيث يصعب على رئيس أمريكي بمواصفات "بايدن" أن ينهيها أو يقلصها، وكانت مقامرة غير محسوبة من الديمقراطيين في أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الرهان على قدرة مرشحهم في التغلب على هذه الانقسامات استنادا إلى خبرته وهدوئه وعقلانيته وتقدمه في السن، وربما ما حدث كان على النقيض تماما مما تم الرهان عليه، إذ اتخذ "بايدن" كثيرا من المواقف التي يمكن أن تعمق من حالة الانقسام، ربما كان آخرها الأسبوع الماضي عندما أهان صحفيا في قناة "فوكس نيوز" وسبه بألفاظ نابية طالت والدته على الهواء مباشرة عندما سأله عن زيادة التضخم ودوره في حسم انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، وهي واقعة لو تمت في عهد "ترامب" لكانت مدعاة لثورة الرأي العام ووسائل الإعلام وربما كانت سببا مباشرا لتحريك دعاوى عزل الرئيس من منصبه، لكن في عهد "بايدن" مرت الواقعة دون حساب وحتى دون أن يسمع عنها كثيرون.
داخليا أيضا، كان التعامل مع تداعيات انتشار فيروس كورونا أحد أهم الأسباب التي أثرت على نتيجة الانتخابات الأمريكية، بل كانت ربما العامل الرئيسي في فوز "بايدن" وخسارة "ترامب" الذي اتهم بالفشل في إدارة الأزمة، خاصة مع توقيت إعلان شركة "فايزر" عن اللقاح، والتي اتهمها "ترامب" بـ"تعمد تأخير إعلان التوصل للقاح لفيروس كورونا لحرمانه من زيادة عدد المصوتين لصالحه في الانتخابات"، فهل تعامل "بايدن" بشكل مختلف؟ وهل نجح فيما فشل فيه "ترامب"؟
ربما تجيب الأرقام عن هذا السؤال، فقبل أن يغادر "ترامب" منصبه بلغ عدد الوفيات جراء الفيروس في الولايات المتحدة الأمريكية 400 ألف فقط، ولم يكن وقتها قد تم البدء في استخدام اللقاح، وهو ما دفع "بايدن" لوضع مكافحة الفيروس على رأس أولوياته.
أما في ظل عام واحد فقط من حكم "بايدن" وفي ظل حملات تلقيح واسعة بعد أن أصبح اللقاح متاحا منذ الربيع الماضي بلغ عدد الوفيات حتى الآن 890 ألف، ليزيد بذلك عدد الوفيات في عام 2021 على عام 2020، رغم الانتشار الواسع للقاحات.
هذا دفع المحافظين والجمهوريين للقول إن "بايدن" قد فشل في الوفاء بوعده في السيطرة على الفيروس.
فيما ذهب البعض إلى حد القول إن هذه الإحصائية تثبت أن تعامل "بايدن" مع الفيروس أسوأ مما كان عليه الرئيس دونالد ترامب، بالنظر إلى أن أكثر من نصف الموتى فقدوا حياتهم بعد أن أصبحت اللقاحات متاحة.
وفيما يتعلق بالاقتصاد، وهذا هو العامل الداخلي الأهم في التقييم، فالبرغم من أن الاقتصاد الأمريكي بدأ في الانتعاش مجددا والعودة تدريجيا لمستويات ما قبل كورونا، فإن مستوى الانتعاش الاقتصادي ليس بالقوة التي كانت متوقعة ومنتظرة، وعلى الرغم من إعلان "بايدن" عن توفير أكثر من 3 ملايين وظيفة جديدة منذ أن أصبح رئيسا، فإنه أقر بنفسه بوجود أزمة في ارتفاع الأسعار المستمر داخل الولايات المتحدة الأمريكية، واعترف بأن التضخم يسبب الألم للأسر الأمريكية.
وبعد أن كشف أحدث تقرير عن التضخم في الولايات المتحدة أن أسعار السلع الاستهلاكية ارتفعت بنسبة 7 بالمئة في عام 2021، وهي أكبر زيادة منذ يونيو من عام 1982، وهي الزيادة التي يرى الجمهوريون أنها نتيجة سياسات الديمقراطيين و"الإنفاق المتهور".
وهو الأمر الذي انعكس على توجهات الأمريكيين، التي عكستها استطلاعات الرأي العام التي أجريت الشهر الماضي، والتي كان من بينها الاستطلاع الذي أجرته جامعة كوينيبياك ونشرت نتائجه شبكة "سي بي إس"، والتي تشير إلى أن 54 بالمئة من الأمريكيين يرون الاقتصاد الأمريكي يسير من سيئ إلى أسوأ، بينما قال 15 بالمئة فقط إنه يتحسن، أما النسبة الباقية فقالت إنه لم يطرأ عليه أي تغيير.
وداخليا أيضا، ربما يكون المجال الأخير للمقارنة بين "ترامب" و"بايدن" هو ما يتعلق بسياسات الهجرة والحدود المتشددة التي اتخذها الأول، والتي وعد الثاني أن تكون إدارته أكثر رأفة وإنسانية في التعاطي معها، إلا أنه بعد عام واحد فقط وجد "بايدن" نفسه يشرف على تصاعد غير مسبوق لعلميات العبور غير القانونية للحدود الأمريكية، الأمر الذي أدى لتصاعد الأصوات الأمريكية المطالبة الآن بسياسة "ترامبية" عاجلة لحماية حدود أمريكا.
إذًا كان من المفترض والمتوقع أن يكون "بايدن" أفضل من سلفه، لكن يبدو أن حصاد عام واحد فقط جعل "ترامب" في نظر كثير من الأمريكيين يبدو الرئيس الأفضل، ويبدو المرشح الجمهوري الأكثر حظا حتى اللحظة في انتخابات 2024، بل أصبح بعضهم يرى الآن أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لم تأت سوى بنسخة يسارية من الترامبية، فما المانع إذًا من العودة للنسخة الأصلية في الانتخابات المقبلة وإعطاء ترامب فرصة ثانية لمحاولة جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى؟
نقلا عن سكاي نيوز عربية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة