اليمين الإسرائيلي الجديد.. الأسباب والتداعيات
خطاب اليمين الجديد وأيديولوجيته تمحورت حول تصعيد خطاب الضم وتفكيك حل الدولتين
يرتبط ظهور اليمين في المشهد السياسي الإسرائيلي بتغيرات اجتماعية وتاريخية وديموجرافية في سياق تطور الدولة والمجتمع في إسرائيل، حيث أسهمت نتائج عدوان 1967، والتي تمثلت في احتلال الضفة الغربية وغزة وسيناء المصرية واكتمال السيطرة الإسرائيلية على فلسطين الانتدابية في تدعيم الاستيطان، واتجاه المجتمع الإسرائيلي إلى التدين والمحافظة، حيث حقق العدوان في نظر الجماعات اليمينية والأحزاب اليمينية والدينية الوعد الإلهي.
كذلك تحولت القيم الاجتماعية التي رافقت تطور الدولة في إسرائيل حتى عام 1967، إلى قيم الريادة والتقشف والزهد المتمثلة في حياة "الكيبوتس"، وغيرها من المنظمات التي ظهرت في إطار تحقيق مشروع الدولة، وحلت محلها قيم الاستهلاك والتطلع إلى الرفاهية والفردية والمنافسة نتيجة اتجاه إسرائيل إلى الانفتاح الاقتصادي وتقليص سطوة الهستدروت والمنظمات التعاونية في الإنتاج.
خلفية ظهور اليمين الجديد
كما لعبت حرب عام 1973 دورا كبيرا في التمهيد لإزاحة النخبة العمالية اليسارية بسبب الفشل الذي رافق أداءها في الحرب وعدم القدرة على التنبؤ بها، في الوقت ذاته كان التحول الديموجرافي يشق مجراه في التركيبة السكانية الإسرائيلية، حيث تدفقت أعداد كبيرة من المهاجرين الشرقيين من المغرب والشرق الأوسط واليمن وإثيوبيا.وعانى هؤلاء من استعلاء النخبة الإشكنازية والتمييز ضدها، وتحول هؤلاء إلى الولاء لتكتل الأحزاب اليمينية التقليدية أو اليمين التقليدي القومي والليبرالي وريث أفكار "جابوتنسكي"، وهو الأمر الذي أفضى إلى هزيمة اليسار الصهيوني والنخبة العمالية التي أنشأت الدولة وسيطرت على أجهزتها منذ نشأتها، وصعود اليمين القومي بزعامة مناحم بيجين وهو تلميذ جابوتنسكي ووريث أفكاره في عام 1977.
ومن هذا التاريخ توارت النخبة العمالية وحزب العمل وعانت من الفشل المرة تلو الأخرى، ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن ظل اليمين التقليدي مسيطرا أغلب الوقت، باستثناء فترات محدودة من التوازن الذي أفضى إلى تشكيل حكومات وحدة وطنية.
ومنذ عام 2005 وحتى الآن سيطرت حكومة نتنياهو على الحكم بلا انقطاع، سواء عبر فوز ائتلافه بتشكيل الحكومة أو بصفته قائما على حكومة تسيير الأعمال حتى تشكيل حكومة، أو الذهاب إلى انتخابات للمرة الثالثة في مارس المقبل.
استمرار هذه السيطرة اليمينية طوال هذه الفترة أفضت إلى زعزعة مراكز الأحزاب العمالية وكذلك الأحزاب التي تقترب منه، مثل حزب "ميرتس"، وفقد الحزب قوته الانتخابية وضعفت سيطرة النخبة العمالية الأشكنازية، وتمكن اليمين الإسرائيلي من فرض أيديولوجيته وتصوراته الداخلية، وتلك المتعلقة بالتسوية مع الشعب الفلسطيني.
تهميش النخبة اليمينية التقليدية
لم تقتصر نتائج سيطرة اليمين التقليدي القومي والليبرالي على ذلك فحسب، بل امتدت إلى تهميش النخب اليمينية التقليدية ذاتها، والذين ينتمون إلى اليمين الليبرالي والذي يوصف عادة بأنه قومي وليبرالي وعقلاني، ويؤمن الحريات الفردية والإعلامية.واتجه الليكود في ظل زعامة نتنياهو إلى تكريس سيطرته على الحزب، وحجب منافسيه في الزعامة، بل إبعاد بعضهم مثل دان ميريدور وبيني بيجين و"رؤوفين ريفلين" رئيس إسرائيل الحالي، وجميعهم من رموز اليمين القومي والليبرالي.
كما لم يتوقف الأمر عند حد إبعاد هؤلاء، بل اتجه الليكود لضم عناصر يمينية متطرفة واستيطانية، كما فعل مع مغني "راب إسرائيلي" متطرف، والذي كان يحظى بشعبية كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي وآخرين معروفين بانتماءاتهم المتطرفة والعنصرية.
وقد أفضى هذا التهميش المزدوج إبان سيطرة نتنياهو للنخبة العمالية واليمينية التقليدية على حد سواء إلى ظهور اليمين الجديد، ويتألف هذا اليمين الجديد من الأحزاب الحريدية "الدينية" المتشددة والأحزاب المتدينة القومية والمستوطنين وأعضاء الكنيست المتطرفين في حزب الليكود والجماعات القومية في حزب "إسرائيل بيتنا"، وبعض الجماعات العنصرية التي تنتمي إلى "كاهانا".
خطاب اليمين الجديد
أما على الصعيد الداخلي الإسرائيلي فإن اليمين الجديد يسعى إلى امتلاك مفاتيح المؤسسات المختلفة، وهي المؤسسات التي يعتبرها هذا اليمين قلاعا تقليدية لليسار، مثل الإعلام والمحكمة العليا الإسرائيلية، وعزز خطابه حول يهودية الدولة على حساب ديمقراطيتها.
واستند في ذلك إلى أن الديمقراطية تستند إلى التوراة ومستوحاة منه، ومن ثم فإن تعزيز يهودية الدولة يؤدى إلى تعزيز ديمقراطيتها، من وجهة نظر بعض منظري هذا اليمين.
من ناحية أخرى، فإن اليمين الجديد يتميز بخطاب عنصري تجاه الآخر الفلسطيني، ويرى ضرورة تحويل هذا العداء للعرب والفلسطينيين إلى سلوك عنيف وعدواني.
وتميزت أيديولوجية اليمين الجديد بمهاجمة حقوق الإنسان وانتقاد الناشطين من الإسرائيليين في هذا المجال، وكذلك مهاجمة الذين ينتقدون سياسات اليمين الجديد ويهودية الدولة وسياسة "الضم"، باعتبارهم خارجين عن الإجماع الشعبي، وينزعون عن الشعب اليهودي صلاحية اختيار سياساته وطبيعة دولته.
وفي الوقت ذاته يعمل اليمين الجديد على خلق ثقافة شعبوية ترسخ البنية اليهودية للدولة واستبدال النخب القديمة بنخب جديدة استيطانية ومدنية ودينية وشرقية، تأخذ على عاتقها حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني وفقا للرؤية المسيانية الثوراتية.
اليمين الإسرائيلي الجديد واليمين الشعبوي الأوروبي
التطورات العالمية الراهنة في الديمقراطيات الغربية التقليدية والمعاصرة والتي تتمثل في ظهور اليمين المتطرف والشعوبي عززت من سطوة اليمين الجديد في إسرائيل، وحدث تقارب بين التصورات والبرامج، العنصرية والكراهية إزاء العرب والفلسطينيين والتحريض.بيد أن هذا التقارب بين اليمين الجديد الإسرائيلي واليمين الشعوبي في أوروبا والعالم سلاح ذو حدين، فهو يعزز من ناحية سطوة اليمين الجديد الإسرائيلي ويضع سيطرته ضمن إطار تطور منطقي تمر به الديمقراطيات كافة، ولكنه في الوقت نفسه يضفي على إسرائيل دوليا طابعا عنصريا وفاشيا، ربما يسهم في عزلتها ودعم دعوات المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، وهي الدعاوى التي تقاومها إسرائيل وتحشد كل مواردها الإعلامية والثقافية لتعطيلها وتقليص تأثيرها على صورة إسرائيل في العالم.
ينظر اليمين الجديد إلى الفلسطينيين باعتبارهم خطرا أمنيا وديموجرافيا، ويتبنى تجاههم خطابا تحريضيا، في مواجهة الحركة الإسلامية الشمالية التي تم حظرها أو تجاه أعضاء القائمة المشتركة من نواب الكنيست.
كما تقف سياسات اليمين الجديد وراء تبني قانون القومية ومختلف التشريعات والقوانين العنصرية وترسيخ مكانة المستوطنين، ليس فحسب من خلال الإطار القانوني والتنظيمي الرسمي للدولة، بل أيضا تبييض سرقة الأراضي الفلسطينية من قبل الإسرائيليين من خلال "قانون التسوية" المتعلق بهذه الأراضي، والحال أن إسرائيل تشرك المستوطنين في سلطاتها عندما يتعلق الأمر بالاستيطان.
يدافع منظرو اليمين الجديد، من بينهم وزيرة العدل "شاكيد"، عن انتقاد المحكمة العليا الإسرائيلية وتقليص صلاحياتها، بدعوى ترك الإسرائيليين يحددون هويتهم وحرية المشرع الإسرائيلي في إصدار القوانين، باعتبارهم الممثل الحقيقي المنتخب للإسرائيليين، وتحصين هذه القوانين ضد الرقابة التي تمارسها هذه المحكمة، وفي انتقاد هذه الدعاوى صرح أحد رؤساء المحكمة السابقة بأنه إذا كان الهجوم على المحكمة يأتي من قبل وزيرة العدل فمن الذي يدافع عن صلاحيات المحكمة.
والحال أن اليمين الجديد الذي يتصدر المشهد السياسي الإسرائيلي قام بتحويل الخطاب اليميني من الصيغة الاجتماعية الليبرالية إلى الصيغة الاستيطانية النيوليبرالية، ولا تزال هذه الرؤية تتصدر الحياة السياسية في إسرائيل حتى إشعار آخر.