إن توجيه الرسالة إلى مصر، ومن خلال فيلم الملاك الذي حمل كما كبيرا من الأخطاء التاريخية والسياسية بل المهنية في علم الاستخبارات.
لا يمكن النظر لفيلم الملاك على أنه فيلم سينمائي لعميل رأت إسرائيل أنه جدير بالتناول وإلقاء الضوء عليه بعد سنوات من التشغيل والعمل، وبعد سنوات من اغتياله بهذه الصورة الدرامية، ومن ثم فإن الأمر يتعلق بمهام وأولويات أخرى سعت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لإنجازها في توقيت له دلالاته، خاصة مع دخول رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على الخط، وإشارته إلى أن الاستخبارات ارتكبت قبل 45 عاما خطأ من خلال عدم إصدارها أي تحذير، ثم أخطأ المستوى السياسي عندما لم يأمر بتنفيذ ضربة استباقية.
سألني صحفي أمريكي مقيم في القاهرة حول حقيقة ما جرى في الإعلام العربي بشأن فيلم الملاك عن توقعي بشأن التحرك الإسرائيلي التالي؟ وكانت إجابتي أن الواقع يشير إلى أن إسرائيل لن تكتفي بالفيلم، خاصة أنها تدرك أنه مجرد فيلمأولا: إن متابعة ما يجري داخل إسرائيل في الوقت الراهن ومتابعة ما يخص أجهزة الاستخبارات على مختلف تخصصاتها، وتحديدا جهازي الموساد والاستخبارات العسكرية "أمان"، يكتشف أنه ليس فقط صراعا على الأدوار والمهام بل الاختصاصات، وهو ما كان حديثا سريا غير معلن، ولا يمكن رصده بسهولة أو تتبعه من مصادر علانية، وإنما كنا نستمد ما نعرفه من مصادر تابعة، ومن خلال توثيق أو أخبار متعددة بعضها من مصادر بحثية وأكاديمية، ولبعض الشخصيات القريبة الصلة بأجهزة المعلومات الإسرائيلية مما أتاح لنا الانفتاح غير المباشر على ما يجري في إسرائيل، واحتاج إلى مراجعات حقيقية لنعرف لماذا الآن تحديدا تسعى إسرائيل لتمجيد دور أجهزة الاستخبارات بهذه الصورة رغم ما يجري، وفي توقيت الصراع على دوائر التأثير ومواجهة المشهد المرتبك داخليا، وهو ما يستهدف ضرب البطولات العربية والتأثير على الشباب العربي، والتأكيد على الموقف الآخر وهو عرف جار بين أجهزة الاستخبارات الدولية، وجرى في مراحل معينة بين الولايات المتحدة وروسيا، وتتفق عليه الأجهزة الصديقة والمعادية.
ثانيا: من اللافت أن الحكومة الإسرائيلية عملت على تطوير مواقفها الأمنية والاستخباراتية انطلاقا من توحيد الهدف والسعي لإطفاء الحرائق بين قيادات الأجهزة الأمنية على مختلف درجاتها، والتي سعت للتأكيد على أنها تواجه تحديات صعبة ومناخا معاديا سياسيا في ظل المطالبة بزيادة المخصصات المالية، وتوجيه صور الدعم، وهو ما جاء على حساب المصادر المقرة سلفا في موازنة الدولة للتعليم والصحة لتخرج بعض الأصوات خاصة في أوساط المثقفين والنخب السياسية، وعرب 48 وبعض الشخصيات العسكرية السابقة، وبعضهم جنرالات خدموا في جيش الدفاع، للمطالبة بوقفة مع تغول هذه الأجهزة ومنع حصولها على زيادات جديدة في المخصصات تحت مسمى ماذا يعملون؟ (طالب الموساد بزيادة ميزانيته السنوية بملياري شيكل بهدف مواجهة التهديد الذي تتعرض لها إسرائيل)، وهو ما آثار بعض القيادات للمطالبة بوقف الحديث المعلن عن زيادة المخصصات في الكنيست وتحديدا في لجنة الأمن القومي، والتي ما تزال تبحث في الأمر، والذي ارتبط بإشكالية الإعلام والإعلان معا عن الدور العظيم الذي خدم وجود الدولة، وأن الأجهزة الأمنية تعمل من أجل بقاء إسرائيل في وسط عدائي، ومن ثم فإن نقل المواجهة الداخلية في إسرائيل للخارج، وإعادة كتابة تاريخ أجهزة المعلومات الإسرائيلية سيبدأ من هنا، ومن خلال الكشف عن عمليات كبيرة يمكن أن تشغل بال وعقل الرأي العام في إسرائيل، ولتؤكد للمواطن البسيط أن هذه الأجهزة الأمنية هي التي حمت إسرائيل، وهي التي أبقتها على قيد الحياة لمدة 70 عاما.
ثالثا: إن توجيه الرسالة إلى مصر ومن خلال فيلم الملاك، الذي حمل كما كبيرا من الأخطاء التاريخية والسياسية بل المهنية في علم الاستخبارات لا يمكن أن يقع فيها كاتب سيناريو شهير مثل ديفيد آراماتا، والمعروف عنه المهنية والتميز في هذا المجال، ومن ثم فإن النقاش حول المغزى السياسي يسبق الأمني والاستخباراتي على أساس أن الفيلم موجه إلى مصر وليس إسرائيل، ومن ثم فإن النقاش حول الرسالة التي طرحها وبعد عدة أيام من عرض الفيلم تؤكد أن الفيلم لا يمثل وثيقة حقيقية في ملف أشرف مروان، وإنما هو واقع سياسي في سياق تاريخي يمكن تحديده، والإشارة إليه في ظل ما يمكن أن يطرحه، خاصة أن القادم سيرتبط بعد تساؤلات مهمة منها؛ هل الفيلم حدث وانتهى كبالونة اختبار وكفى، أم أنه سيأتي في سياق حملة حقيقية ستعيد كتابة تاريخ المخابرات الإسرائيلية من واقع ما قدم، وهل ستبادر إسرائيل بعرض بعض الملفات من الجانب الآخر؟ أي نشر تفاصيل عمليات نجحت إسرائيل في القيام بها وحققت نجاحات مدوية من منظورهم، وما هو البديل؟ خاصة أن إسرائيل ستعمل على كشف وقائع ما سيجري، خاصة أن الأجهزة الاستخباراتية ستعمل على تقديم صورة مغايرة من جانب واحد، وهو أمر معروف في علم المخابرات من أجل غسيل تاريخها، خاصة في مسلسل الإخفاقات التي تعرضت له إسرائيل، ومن ثم فإنه من المتوقع أن تقدم إسرائيل على اتخاذ إجراءات جديدة بشأن الكشف عن عمليات مقابلة، ولن تكتفي بفتح ملفات أحمد الهوان أو عزام عزام فقط، بل هناك في إسرائيل من يطالب بضرورة مراجعة كافة ملفات العملاء والعمل على طرح البديل، وهو ما سيشغل إسرائيل الأمنية في الفترة المقبلة، مع العلم بأن الذي يتولى إدارة الاتصالات مع مصر رئيس الشين بييت نداف أرجمان وليس رئيس الموساد يوسي كوهين.
رابعا: سألني صحفي أمريكي مقيم في القاهرة حول حقيقة ما جرى في الإعلام العربي بشأن فيلم الملاك وتوقعي بشأن التحرك الاسرائيلي التالي؟ وكانت إجابتي أن الواقع يشير إلى أن إسرائيل لن تكتفي بالفيلم، خاصة أنها تدرك أنه مجرد فيلم ولكن الحرب الإعلامية التي صاحبته يكشف عن مخطط حقيقي جديد لإسرائيل في ممارسة أكبر خطة إشغال سياسي واستراتيجي لمصر في الوقت الراهن، ومحاولة إيهام الرأي العام في مصر بأن قصص تمجيد جهاز المخابرات العامة في عملياته التاريخية غير صحيح، وأن إسرائيل لديها الرؤية الأخرى وهي رؤية الطرف الخصم والطرف المعادي، خاصة مع رهانها بأن قطاعات عريضة من الرأي العام في مصر ما تزال ترى في إسرائيل دولة عدو رغم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وأن النخبة المصرية والرأي العام يتفقان في هذا الأمر ولن يتراجعوا في تفاصيله أبدا، ومن ثم فإنه علينا ألا نتوقف عند الحملة الموجهة على مصر ليس فيها فقط من خلال تناول ملف أشرف مروان الذي حسم منذ سنوات طويلة، وكان ملفه رئاسيا واستخباراتيا معا، وأن رؤساء مصر جزموا بوطنية الرجل، وإنما ما أحيط بالملف من تفاصيل هو الذي أدى لتشويش حقيقي على دور مروان والذي –على الرغم من أنه كان صهر الرئيس جمال عبدالناصر- يظل مجرد مواطن مصري أدى دوره في ملف استخباراتي، شأنه شأن عشرات الشخصيات التي تم ويتم التعامل معها استخباراتيا، وهو عرف جار في أجهزة الاستخبارات ليس في مصر أو إسرائيل، وإنما في كافة أجهزة الاستخبارات العالمية، وبصرف النظر عن دوره في تنفيذ جزء صغير من الخداع الاستراتيجي التي قامت بها مصر على أعلى مستوى، وشاركت فيها عشرات الشخصيات والقطاعات الوطنية ولم تكن حكرا على أشرف مروان وحده.
خامسا: سيظل تاريخ وترتيب أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية -رغم حالة التهويل والتهوين من قدراته وإمكانياته- ليس متقدما كما يتصور البعض بل تسبقها أجهزة استخبارات أوروبية ولا يوجد تحت أيدينا رسميا ما يؤكد جدارة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية واحتلالها مكانة متقدمة، خاصة أن ما ينشر حول دور هذه الأجهزة ومهامها وعدد المحطات الحية التي تملكها داخل وخارج المنطقة، وعدد ضباطها والمتعاملين معها لا يبدو صحيحا أو أنها تلي الاستخبارات الأمريكية، وإنما هو حديث من المصادر الصحفية العابرة، والتي يسوق لها الموساد عبر ما يعرف باسم وحدة البث الإلكتروني، وآليات دعم تحمل أرقاما كودية يتم تغييرها، وهي التي ترتبط بوسائل مباشرة لعمليات التجنيد الإلكتروني عبر فتح حوارات ومجموعات للتعارف وإبداء التصورات والآراء بين الشباب العربي وبعض الشخصيات الإسرائيلية المعلومة والمجهولة تحت سواتر معينة، ومن ثم فإن التأكيد على أن الهدف الاستراتيجي للأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية هو نقل ما يجري إلكترونيا، وعبر حزم أمنية واستخباراتية معقدة إلى وسائل دعم اعلامي موجه وملون ومبثوث بصورة مباشرة ومستهدف قطاعات جماهيرية كبيرة، ومن ثم فإن الإشارات التي تعلنها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عبر وسائط إعلامية معروف أنها ترتبط ارتباطا هيكليا بمهام الأجهزة الإسرائيلية، وتؤدي دورا في الحرب الإعلامية يجب أن تؤخذ في الاعتبار وتوضع في سياق سياسي وأمني معا، وليس فقط النظر إليها على أنها مصدر مصدق به أو متعارف عليه أو أنه الصحيح.
سيبقى الباب مفتوحا على سيناريوهات عدة للتأكيد على أن إسرائيل ستستمر في مخططها كاملا لتبيض دور أجهزة الاستخبارات بكل الصور المعروفة في علم المخابرات الاستراتيجية، خاصة أن ما تتعرض له من اختراقات حقيقية غير معلنة يشير إلى حالة من الانفعال اللافت في المصادر الإعلامية الإسرائيلية المتخصصة على ما يجري في الموساد تحديدا، خاصة أن وقوع شبكة التجسس التي ترأسها وزير سابق غونين سيغيف تشير إلى حدوث اختراقات أخرى ستخرج على الملأ، وستكون تكلفتها عالية جدا في الفترة المقبلة، وستمثل ضربة موجعة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي ظلت في حالة من المناعة الممتدة لسنوات، ومن حالة من اليقين بأن دورها بطولي ويدخل في دائرة الأساطير التي رسمتها آلة إعلامية ضخمة داخل وخارج إسرائيل، وفي دوائر الخارج وتحديدا في الولايات المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة