إسرائيل ليست دولة عابرة، وإنما دولة تمارس فيها التعددية والليبرالية بصورة، أو بأخرى مع التحفظ على بعض الممارسات تجاه الأقليات، ومنها عرب إسرائيل أنفسهم.
وهذا يعني أنها لا تنتظر انقلاباً عسكرياً وشيكاً – كما يتوهم البعض - يمكن أن يحسم الأمر في نهاية المطاف، وينهي حالة الجدال الراهنة بين الجمهور المؤيد والرافض لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، الذي يسير في طريقه لاستكمال مشروع الإصلاح القضائي بعد تمرير المشروع في الكنيست في درجتيه الأولى والثانية.
خاصة أن الموقف الراهن سياسياً وأمنياً ما زال متوتراً ومتجاذباً بين الشرائح المجتمعية الرافضة لسياسات نتنياهو في مجملها، وليس فقط الإصلاح القضائي الذي يعمل في اتجاهات متعددة، مما يشير إلى أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه يفتح الباب أمام جملة تساؤلات محددة حول موقف الجيش الإسرائيلي مما يجري، وهل يمكن أن يحسم الأمر في نهاية المطاف في ظل عجز محتمل للمحكمة العليا في التعامل مع تطورات الأمر سياسياً وقانونياً، وفي ظل عدم تقبل الجمهور الإسرائيلي لما يجري من تطورات سياسية في الشارع السياسي، وهو ما يؤكد أن الأمر سيكون في النهاية في يد مؤسسات الضبط الأمني والاستراتيجي، ممثلة في مؤسسات القوة السياسية، سواء كانت الجيش أو أجهزة المعلومات، ما يؤكد أن الأمر لن يترك للمعارضة الفاشلة، العاجزة عن اتخاذ إجراءات مضادة، أو كسب الجولة من نتنياهو، وأحزاب اليمين في ظل ضعف شخوصها، وعدم امتلاكها مشروعاً حقيقياً للتفاعل داخلياً للمّ الشمل، وبناء تماسك اجتماعي وسياسي حقيقي في الفترة المقبلة، أو حتى الذهاب إلى انتخابات جديدة يمكن أن تغير من قواعد اللعبة الراهنة في ظل رفض الجمهور الداعم للدخول في هذه المواجهات، وقوة أحزاب الائتلاف بمكوناته السياسية والحزبية مما يعني أن الحكومة الإسرائيلية ستمضي في نهجها لاستكمال ما يجري.
ومن ثم، فإن الجيش سيكون أمام خيارات صعبة ومعقدة بالفعل في ظل ما يجري من تحولات حقيقية لدى الشارع الإسرائيلي، يمكن أن تلقي بتداعياتها على مسار الحياة السياسية والحزبية. فالجيش الإسرائيلي - وهو مكمن الخطر - قد تأثر بمجمل ما يجري، خاصة في مواجهة القوى السياسية والحزبية المتناحرة، التي لا تعمل في اتجاه واحد، وإنما من خلال مقاربة شاملة لا تعتني فقط بالإصلاح القضائي، خاصة في ظل تربص رئيس الوزراء نتنياهو، ووزير العدل ياريف ليفين بالقضاء، ورفضهما الوصول إلى حل وسط وتوافقي، كما فشل الرئيس الإسرائيلي في بناء أي توافقات اجتماعية حقيقية يمكن البناء عليها في الفترة الماضية.
فالجيش منقسم مع وضد، وهناك تسربات حقيقية من أداء الخدمة العسكرية، ورفض عناصر الاحتياط العمل في هذه المنظومة، وغيرها من عشرات الحالات التي تؤكد أن الوضع في الجيش غير مستقر رغم ما اتخذ من إجراءات، سواء بإجراء تعيينات جديدة شاملة ضمت كل الأسلحة والكتائب الرئيسية، في إشارة إلى أن رئيس الأركان الجديد الجنرال هرتسي هاليفي يريد إعادة ترتيب الأجواء، والعمل من خلال مقاربة مختلفة لإبعاد الجيش عن مستنقع السياسة الإسرائيلية الراهنة، التي هبطت بتطوراتها إلى الدرك، ما يجعل الجيش رافضاً لكل ما يجري، ويعمل في اتجاه محدد ومباشر، ومن خلال استراتيجية الترقب والحذر مع العمل في اتجاه محدد، وهو إعادة التماسك الحقيقي، وعدم الانسياق وراء السياسة اليمينية الراهنة.
والانتقال إلى مرحلة مواجهة الخارج في ظل اتساع خريطة التدخلات من غزة إلى الشمال، حيث حزب الله، ومروراً بالضفة الغربية، ما يؤكد أن إسرائيل الأمنية والعسكرية، التي يعبر عنها الجيش، لديها أولويات مهمة في إطار ما يجري من تحولات حول إسرائيل من مخاطر تتطلب التماسك والعمل على مواجهتها، وليس الصراع الحزبي أو السياسي الراهن، الذي قد يؤدي لانهيار منظومة التعامل الوطني في مواجهة مخطط ما يجري من تطورات. الأمر الذي قد يدفع الجيش للتدخل وحسم كل ما يجري ليس من خلال القيام بانقلاب أو إحداث تغيير بالقوة، فالجيش الإسرائيلي يحكم بصورة أو بأخرى، وهناك مؤسسات القوة التي تعمل في اتجاهات محددة للحفاظ على وضع الجيش ومواجهة أي مطالب بتقليل النفقات الموجهة لخدمة الجيش، التي جاءت على حساب الصحة والتعليم.
ومن ثم، فإن ما يجري يتم في سياق موحد، ودافع بقوة لمواجهة حالة الخلل في بنية المؤسسات السياسية والحزبية، التي لم تعد صالحة للعمل، مع التأكيد على ضرورة الانتباه إلى مخاطر ترك الأمور على ما هي عليه لأحزاب ليست قوية، ولقوة المستوطنين والمتدينين الساعين للحصول على مكاسب دينية ليست سياسية في ظل مخصصات يطالبون بها. وكل ما يشغل الجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن هو إعادة ترتيب الأولويات، وتسكين الأزمات، وإعادة بناء استراتيجية الجيش القتالية، والهروب من الواقع السياسي المتدني، مع العمل في اتجاه محدد، وإعادة الانضباط لمؤسسات الدولة التي تعاني حالة عدم استقرار يمكن أن تتحول إلى حالة عامة تذهب بإسرائيل لحالة من الشلل الاجتماعي والأمني والاقتصادي، وهو ما لا تستطيع إسرائيل تحمله أصلاً في ظل غياب الرؤية الجامعة التي لم يعد لها وجود في الوقت الراهن، مع وجود ساسة غير موهوبين وأنصاف سياسيين ليس لديهم حضور شعبي أو جماهيري، ومن ثم فإن الجيش الإسرائيلي سيظل على مقربة مما يجري دون الإقدام على تبني سياسات محددة إلى حين أن يصل إلى نقطة توازن يعمل عليها في ظل دائرة محددة يمكن الانطلاق منها إلى تحقيق الاستقرار السياسي المطلوب.
أما أن يقدم الجيش الإسرائيلي وقياداته الجدد على الدخول في مواجهات، فهذا غير وارد في ظل هيكل استراتيجي وهرمي منضبط داخل مؤسسات وقطاعات الجيش. وتدفع لمزيد من فرص الحسم التي يمكن أن يقوم بها الجيش في حال توترت الأجواء، أو انهار الوضع الداخلي، أو أصيبت الدولة كلها. ولن يقبل الجيش الإسرائيلي بحالة الخلل الهيكلي ما يتطلب الإقدام على تبني خيارات صفرية، واتخاذ إجراءات مباشرة خروجاً عن تقاليد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ودورها في الحياة السياسية الداخلية. فالإشكالية ليست في الدور المرتقب، أو المحتمل للجيش الإسرائيلي وفرص تدخله الواقعية، وإنما في نمط التعامل المحتمل.
في المجمل، ستظل حالة الهواجس قائمة بأن الجيش الإسرائيلي قد يتعرض لخطر التفكك، ما يؤدي إلى ضعف الجيش الإسرائيلي بعد أن أعلن أكثر من 10 آلاف عسكري من صفوف احتياط الجيش وقف تطوعهم في صفوفه. في حال عدم وقف إجراءات تشريع لتغييرات قضائية، مع الدعوة بشكل عاجل إلى الوقف الفوري للتشريعات أحادية الجانب، فالاضطرابات التي يمر بها الجيش الإسرائيلي، والتي تقوض أسس جيش الشعب، ستؤدي في مجملها إلى تآكل ردع إسرائيل، وتقوية العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، وضعف الاقتصاد، وتكريس الانقسامات المجتمعية، وإضعاف النسيج الوطني كله وفقاً للتصور الشامل في إسرائيل.
ويبقى المخرج الوحيد هو الوقف الفوري والكامل للإصلاح القانوني، وبالتالي وقف الاحتجاج، وبدء عمل قيادي سياسي يعكس إرادة الأغلبية، وذلك كحل وسط حقيقي على الأسس المقرة للدولة، مع توجيه معظم جهود الحكومة ومواردها للتعامل مع المشاكل الراهنة للأمن القومي الإسرائيلي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة