لم يتأخّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن وصف البيان الأخير، الذي أصدره أكثر من مئة أدميرال من البحرية التركيّة، بالانقلاب.
وهو وصف اعتاد الرئيس التركي استخدامه عند كل انتقاد يوجّه إليه أو إلى حزب "العدالة والتنمية" الحاكم الذي يقوده، فأي محاولة لإصلاح أخطائه التي باتت لا تعدّ ولا تحصى في البلاد يعتبرها انقلاباً على حكمه ويجب محاسبة أصحابها.
لقد أصدر 103 أدميرالات متقاعدين من البحرية التركية بياناً قبل أيام، اعترضوا فيه على مشروع "قناة إسطنبول"، وأعربوا عن غضبهم من ابتعاد الجيش التركي والمؤسسة العسكرية عن الدستور و"قيم الجمهورية". كذلك انتقدوا في بيانهم انسحاب الرئيس التركي من "معاهدة إسطنبول" المعنية بحماية المرأة من العنف، فسارعت وزارة الدفاع التركية إلى الاعتراض على البيان ورفضه، معتبرة أن الموقّعين عليه لا يتمتعون بصفاتٍ رسمية تخول لهم توجيه الانتقادات التي تحدّثوا عنها، واصفة إياه بأنه يمسّ بـ"ديمقراطية" البلاد ويهددها.
وبالتوازي مع اعتراض الرئيس التركي ووزارة دفاع بلاده على نص البيان، تحرّكت النيابة العامة وفتحت تحقيقاتٍ سريعة ضد كل الموقّعين عليه، وليس مستبعداً أن تتخذ السلطات إجراءاتٍ صارمة بحقهم قد تصل إلى حدّ احتجازهم لسنواتٍ طويلة والاستيلاء على ممتلكاتهم، وكذلك منعهم من السفر خارج البلاد، فقد سبق لأنقرة أن قامت بطرد مئات الأكاديميين من وظائفهم ومنعتهم من السفر واعتقلت بعضهم وزجت بهم في السجون، وذلك بعدما دعت مجموعة من أساتذة الجامعات، الجيش التركي لوقف عملياته العسكرية ضد الأكراد قبل سنوات، وقد عُرف ذلك البيان بـ"عريضة السلام".
وباعتبار أن تركيا بلد اعتاد على الانقلابات العسكرية، فإن أي تحرّك للجيش حتى وإن كان لمسؤولين متقاعدين بات يقلق ويخيف الرئيس الحالي، الذي سبق أن طرد عشرات الآلاف من الجيش ودوائر الدولة على خلفية حصول المحاولة الانقلابية المزعومة والفاشلة على حكمه منتصف عام 2016، ولذلك هو يتحرّك بسرعة لسدّ الطريق أمام كل التحركات الحالية واللاحقة، وبالتالي لن ينجم عن البيان الأخير سوى مزيد من القمع واستمرار حملات الاعتقال، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن بعض مسؤولي الجيش الذين أخرجوا من مناصبهم أو تقاعدوا، عادة ما يحظون بتأييد بعض العسكريين الموجودين داخل المؤسسة العسكرية، وهم جميعاً عرضة للملاحقة والاعتقال.
وحتى اليوم، أصدر القضاء التركي مذكّرات توقيفٍ بحق 10 من الأدميرالات الموقعين على البيان الأخير، وهناك 4 آخرون سيتم استجوابهم لاحقاً ولم يُسجنوا لكبر سنّهم. ومع ذلك يبدو أن باب الاعتقالات لن يغلق قريباً لا سيما أن الموقعين على البيان أشادوا بمبادئ مؤسس تركيا الحالية مصطفى كمال أتاتورك، وقد تكون هذه الإشادة بمثابة رضا من قبل حزب "الشعب الجمهوري" على نص البيان، فهذا الحزب يتبنى أيديولوجيا أتاتورك، ومن المحتمل أن تكون هناك صلات بين الأدميرالات و"الشعب الجمهوري"، وهذا سبب إضافي لتعاطي أردوغان بحدّة مع أصحاب البيان الأخير.
وعلى الرغم من أن الموقعين على البيان اجتمعوا على ضرورة الالتزام بمعاهدة "مونترو" التي تنظم مرور السفن في المضائق التركية ومسائل أخرى منها التراجع عن الانسحاب من "اتفاقية إسطنبول"، لكن الحكومة دافعت عن كلّ تحرّكاتها رغم أن الموقعين على البيان اتهموا الجيش بالابتعاد عن الدستور. وهذا كله يعني أن نص البيان لن يؤخذ على محمل الجد من جانب السلطات، بل سيتم التعامل معه على أنه محاولة انقلابية ويجب معاقبة المتورطين فيها.
بكل الحالات، اعتاد الرئيس التركي على وصف كل ما لا ينال إعجابه بمحاولة انقلاب على الدولة، فقد سبق له العام الماضي وأن اتهم معارضيه السياسيين بالعمل على محاولة انقلابية، وقد استند في اتهامه هذا إلى تصريحٍ للمعارضة البارزة جانان كفتانجي أوغلو كان مفاده أن أنقرة سوف تتخلص يوماً من حكومتها الحالية، لكن أردوغان وجد في هذا التصريح محاولة انقلابية يجب وأدها. ومع كل التدابير التي يتخذها، فإن البيان الأخير يؤكد أن الجميع مستاء من سياسته وقراراته الأحادية وأن العنف وحده هو من يحمي بقاءه في السلطة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة