مقابر اليهود في بغداد.. تاريخ سابق وخرافة حاضرة لعلاج تأخر الإنجاب
عند الضاحية الشرقية من العاصمة بغداد رجل طاعن في العمر بدت عليه علامات الخواء والتعب، يحاول دفع نار ولاعته إلى رأس عود بخور.
ويسبق ذلك صوت جهوري يُسمع من بعد أمتار، وهو يتلو قراءة سورة الفاتحة على قبر يهودي علا عليه الأسمنت والتراب.
يواصل أبوعلي السير بخطاه المثقلة بتراكم السنين، متنقلا بين ممرات القبور ورش الماء من عبوة زجاجية شفافة، فيما يتوقف رافعاً يديه بالتضرع والابتهال لقضاء حوائج كانت سبباً وراء مجيئه إلى المنطقة المسورة بالسياج العالي.
يقول أبوعلي "هذه أماكن أتقرب بها إلى الله في الدعاء ودائماً ما تقضى بالسريع العاجل".
على أرض تصل مساحتها لأكثر من 4 دوانم، تقع المقبرة اليهودية، التي تضم جثامين نحو 4 آلاف يهودي، يحيط بها سور محكم له باب كبير، وسط منطقة سكنية مكتظة بالسكان عند مدينة الصدر.
يتحدث أبوعلي لـ"العين الإخبارية"، عن حكاية ممتدة منذ أربعين عقداً، مارسها وعاش طقوسها مع عائلته بين الحين والآخر، مؤكداً أن اختلاف الأديان رحمة للعالمين، لكن البعض قد حولها إلى مدعاة للتفريق بين البشر واستغلالها لضرب المذاهب وتسقيط الشرائع السماوية.
وتخلو المقابر من ذوي الموتى وتكاد تكون مهجورة باستثناء بعض الزيارات النادرة لهم في بعض المناسبات الدينية كعيد الصيام، فيما تشكل حركة الزائرين أغلبها من المسلمين وبعض من الطوائف الأخرى.
وتزدحم أقدام الوافدين عادة عند قبر "سيد بليبل"، وهو يهودي تقصده الكثير من النساء والرجال بغرض تحقيق الأمنيات التي ترفع عنده، حيث يعتبرونه وليا صالحا.
وجرى عرف سائد بين النساء المتزوجات ممن تأخر عليهن الإنجاب، أن يزرن المقبرة اليهودية ويقدمن النذور اعتقاداً منهن باستجابة الدعاء.
وعادة ما يمارسن طقوساً تتضمن القفز 7 مرات فوق أحد القبور لقضاء الحاجة والاستجابة، وغالباً ما يكون قبر اليهودي بليبل فضاءً لتلك الممارسات.
وكان لليهود حضور مؤثر في العراق قبل أكثر من 70 عاماً، وبرزت فيهم شخصيات مهمة ومؤثرة في مجال الاقتصاد والتعليم والسياسية وإدارة الدولة.
ووصلت أعدادهم قبل التهجير إلى نحو 150 ألفا، ولهم مزارات ومعابد موزعة في عدد من مدن العراق.
ودفع يهود العراق ثمناً غالياً نتيجة التقلبات السياسية الدولية خصوصاً عقب إعلان إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948، لتجري بحقهم ممارسات ترحيل قسرية من قبل الحكومات المتعاقبة على الحكم، امتداداً من ذلك التاريخ وحتى مطلع السبعينات من القرن الماضي.
وبموجب قرارات السلطات حينها، أسقطت الجنسية العراقية عنهم وصُدّرت ممتلكاتهم، واستمرت حركة نزوحهم نحو الخارج على شكل دفعات متعاقبة كان أوسعها ما بين الفترة (1949 -1953).
وحتى مطلع سبعينيات القرن الماضي تم إفراغ البلاد من أبناء تلك الطائفة، ولم يتبق منهم سوى أفراد قلائل جداً اضطروا إلى العيش بالخفية دون التجرؤ على إعلان هويتهم الدينية.
يخبرنا زياد البياتي، المكلف برعاية الموتى اليهود منذ 4 عقود، أن المقبرة أقيمت على أرض مملوكة ليهودي عراقي يدعى دانيال تبرع بها، إضافة إلى مبلغ مليون دينار عراقي حينها.
ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 1975 حين طالت الحركة العمرانية الواسعة في العاصمة مبنى المقبرة القديمة بمنطقة النهضة، وسط بغداد، مما اضطر حينها إلى تهديمها ونقل جثث جميع اليهود فيها إلى المكان القائم الآن.
وتضم المقبرة شخصيات بارزة ومهمة، من بينهم وزير المالية في العهد الملكي ساسون حسقيل، الذي عرف بنزاهته وكفاءته المميزة في إدارة الوزارة.
وكذلك يرقد إلى جواره ببضع أمتار اليهود الخمسة الذين أعدموا في مطلع السبعينيات بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، إضافة إلى قبر طيار يهودي آخر شارك ضمن الجيش العربي في حرب 1948.
وينوه البياتي إلى أن مهامه تقع ضمن ترميم القبور التي تعاني الضرر جراء تقادم السنين وحماية المقبرة من العبث والتخريب.
ويستطرد في القول: "سابقاً قبل عام 2003، كانت الأوقاف الدينية هي المسؤولة عن ذلك الأمر، غير أنه بعد ذلك التاريخ باتت الطائفة اليهودية الموسوية هي من تتكفل بذلك بما فيها تأمين راتبي الشهري".
ويقول البياتي، أو كما يعرف بـ"أبوعمر"، وهو مسلم، إن المقبرة شهدت خلال الـ12 عاماً الماضية دفن 3 يهود، كان آخرهم في سبتمبر/ أيلول الماضي.
وقبله دفن رئيس الطائفة ناجي جبرائيل في سنة 2012، وسبقها قبل ذلك بأربعة أعوام دفن مديرة مستشفى الواسطي فيوليت شاؤول.
ويوضح أبوعمر أن "مراسم الدفن والتكفين لدى اليهود تشبه التي يقوم بها المسلمون، وتختلف فقط في أن المسلمين يوجهون رأس الميت باتجاه الكعبة المكرمة، بينما يوجهها اليهود باتجاه القدس".
وأضاف أن اليهود "لا يدفنون موتاهم في يوم السبت باعتباره يوماً مقدسا بالنسبة لهم، وكذلك لا يدفنون بعد غروب الشمس تجنباً منهم للحذر والخوف حسب طقوسهم، ويبنى القبر بعد 7 أيام من دفن الميت".
aXA6IDMuMTM1LjE4OS4yNSA= جزيرة ام اند امز