انظر في واقع الوظائف، محدودة الخبرات، وستعرف لماذا سياسة الهجرة، التي تمارسها حكومة المحافظين في بريطانيا ضارة بالاقتصاد.
تقرير حديث لوكالة الصحافة الفرنسية حول كيف تحولت "معجزة الوظائف" إلى كابوس، كشف عن واقع بائس بكل معاني الكلمة.
فإذا نظرت إليه من زاوية سياسات الهجرة، فلن يصعب أن ترى كيف أنها هي التي صنعته.
فقدت سوق العمل البريطانية نحو نصف مليون وظيفة خلال جائحة كورونا. وعندما عادت المطاعم والمقاهي والفنادق والمزارع لتفتح أبوابها، فإنها لم تجد موظفين لاستئناف التشغيل، حتى مع ارتفاع الأجور عن مستوياتها المتدنية السابقة.
الإغراءات لم تعد تنفع، حتى ولو شملت تكاليف السكن. وحركية الوظائف نفسها تبدو كارثة قائمة بذاتها. في جملة غنية بما يكفي، يقول ذلك التقرير: "يبدو أنّ لا شيء يوقف (الاستقالة الكبيرة) في مجال العقود غير المستقرّة، فقد غيّر مليون شخص وظائفهم في ربعٍ واحد من السنة في المملكة المتحدة، بحثًا عن مزيد من المال وأيضا عن حياة أفضل".
وبينما كانت بريطانيا تستقطب ما بين 200 و300 ألف عامل يأتي معظمهم من بلدان شرق أوروبا، فإن سياسات الهجرة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يفرضان على هؤلاء العمال القدوم بموجب "فيزا" لا يمكن الحصول عليها في أقل من سبعة أسابيع.
الاقتصاد مثلما يتطلب خبراتٍ وكفاءاتٍ عاليةً، فإنه يتطلب عمالا دون مهارات مسبقة. الكثير من تلك المهارات يجري تنميتها من خلال العمل نفسه. لا تحتاج إلى أن تكون خريج كلية هندسة معمارية لتكون عامل بناء ماهر بعد مرور أسبوعين من العمل. وإذا تخرجت في هذه الكلية، فلسوف تفضل البطالة على أن تكون عامل بناء. وعندما تُفقَر سوق العمالة متدنية المهارات، فإن الاقتصاد الكلي يتعرض لأضرار ضخمة.
أبسط معرفة اقتصادية تقول إن الاقتصاد الصغير محرك رئيسي للاقتصاد الكبير. الشركات الكبرى غالبًا ما تعتمد على خدمات شركات متوسطة. وهذه بدورها تعتمد على شركات أصغر منها. والأفراد، بمهارات عالية أو متدنية، يتحركون في وظائف تستقر كلما استقرت التعاقدات.
تغرق سلطات الهجرة في بريطانيا بعشرات الآلاف من طلبات اللجوء. والفكرة الطاغية لدى هذه السلطات هي كيف يمكن ترحيلهم إلى رواندا، وليس كيف يمكن الاستفادة من كونهم قوة عمل.
أحد جوانب الفوضى القائمة في مكاتب هذه السلطات لا يقتصر على فشل مزمن في التعامل مع طلبات اللجوء أو تجديد الإقامات، مما يبعث على اليأس من أن هذا البلد صالح للعيش فيه بالنسبة للعمال الأجانب، ولكن الفشل يمتد إلى عدم وجود جهاز تنظيمي يربط بين طلبات اللجوء أو الهجرة وبين سوق العمل.
هذا ليس مجرد فشل إداري. إنه فشل سياسي، لأنه يتعلق بموقفٍ مُعادٍ لوجود عمالة أجنبية، أو حتى لوجود أجانب أصلا.
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كانت سوق العمل البريطانية مفتوحة دون قيود تقريبًا. وأمكن استيعاب ما لا يقل عن مليونَيْ أجنبي خلال عقدين من الزمن، أصبحوا جزءا من سوق العمل ومن كل وجه من وجوه الحياة الأخرى، حتى أصبح مهاجرون سابقون نوابًا وقادة مؤسسات ووزارات.
ناظم الزهاوي، وزير الخزانة الراهن، وسوناك ريتشي، وزير الخزانة السابق، مجرد مثالين من مئات الأمثلة الأخرى، بمن فيهم رئيس بلدية لندن، صادق خان، الذي ولد في لندن لأبوين قدما من باكستان في عام 1968.
أصول المنعطف في سياسات العمالة، وتاليا الهجرة، بدأت من الانقلاب الذي أحدثته مارجريت تاتشر. وتحديدًا من تبديل استخدامات ومصادر الطاقة، التي حكمت على مناجم الفحم بالإعدام.
عمال المناجم كانوا في الغالب يميلون إلى حزب العمال. ما أضاف بُعدا أيديولوجيا للموقف من اقتصادهم وعمالتهم.
ومع ارتفاع مكانة "اقتصاد الخدمات"، الذي لعبت فيه البنوك دورًا مركزيا، فقد تقلصت الحاجة إلى المهارات المتدنية لصالح المهارات الأعلى.
وعندما تولى توني بلير قيادة حزب العمال في عام 1994 وقف في مؤتمر للحزب ليقول إن صناعة الموسيقى في بريطانيا تُدرُّ عائداتٍ للاقتصاد أكثر مما تقدمه صناعة المناجم.
كانت تلك هي الضربة القاضية.
حكومة العمال بين عامي 1997 و2010 ظلت تدافع عن فكرة أن الأجانب يلعبون دورًا مهما في الاقتصاد، ولكن وسط حركية مختلفة للاقتصاد رفعت مستويات البطالة حتى بلغت نحو 8 بالمئة في عام 2010. وهي السنة التي عاد فيها حزب المحافظين إلى السلطة من جديد بقيادة ديفيد كاميرون، ليخوض في صراع داخلي حول الخروج من الاتحاد الأوروبي انتهى باستفتاء عام 2016.
الهجرة، والموقف من العمالة الأجنبية كانا من أهم الدوافع لانتصار المدافعين عن الخروج. والعمالة البريطانية، التي تضررت من التحول نحو مزيد من "اقتصاد الخدمات" اعتبرت أن قطع الطريق على الهجرة يوفر لها فرصًا أفضل، بعيدًا عن المنافسة مع العمال الأوروبيين على وجه الخصوص.
الواقع كان يسير في اتجاه آخر، وهو أن التوسع الاقتصادي امتص كل العمالة الزائدة، حتى تراجعت معدلات البطالة إلى 3.8 بالمئة. وهي معدلات تقترب من "التشغيل الكامل" لطاقة الأيدي العاملة.
التغيير حصل في ثلاثة عوامل:
الأول، هو أن اليد العاملة التي كانت تبحث عن فرص قبل عقدين من الزمن، خرجت من السوق إلى التقاعد، دون أن تجد السوق ما يعوض عنها وسط سياسات الهجرة المناوئة للأجانب.
والثاني، هو أن اليد العاملة المحلية الشابة الجديدة صارت أكثر تعليما من جيلها السابق، وتطلب مستويات عمل أرقى وأكثر استقرارًا.
والثالث، هو أن "الفكرة" المعادية للأجانب، تحت وطأة السجال الطويل بشأن البريكست، كسبت عمرا أطول من احتياجات السوق.
الاقتصاد الكلي هو الذي سوف يدفع الثمن. ومع اجتماع الركود بالتضخم، فإن الثمن سيكون باهظا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة