بالعلم تُبنى الأمم، وبالهُوية يُعرف الفرد.
في طريقه إلى العمل ينزل "أبو سيف" لتناول وجبة الإفطار، وقد سبقه "سيف" ووالدته إلى طاولة الطعام.
قبل جلوسه إلى الطاولة، يلقي تحية "السلام عليكم" وصبّحكم الله بالخير، فيجيبه "سيف" باللغة الإنجليزية قائلا: Good Morning Dad.
يبلغ "سيف" ست سنوات، وهو في الصف الأول بإحدى المدارس الخاصة ومتفوق في جميع المواد الدراسية، إلا اللغة العربية، التي يحقق فيها علامات النجاح بشق الأنفس.
ولعلنا نتساءل: لماذا يحصل "سيف" على درجات متدنية في لغته الأم بعكس أدائه في باقي المواد الدراسية؟ وهل السبب يرجع إلى الأسرة أم المدرسة أم هناك أسباب أخرى؟
لقد أولت دولة الإمارات العربية المتحدة منذ انطلاق مسيرة الاتحاد في عام 1971 تطوير قطاع التعليم والهيئات التدريسية والمؤسسات التعليمية اهتمامًا عظيما للنهوض بأفراد المجتمع بناء على الرؤية الطموحة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان، طيّب الله ثراه، والذي رسًخ في الأذهان مقولة: "المصانع لا تصنع الرجال، بل الرجال هم من يبنون المصانع".
وهذا البناء لن يكتمل إلا بالعلم والمعرفة والأخلاق. وقد تميزت مناهج التعليم والمبادرات الاستراتيجية لوزارة التربية والتعليم في الإمارات بالتركيز على اتباع مناهج التعليم الذكي ورفع كفاءة الهيئة التدريسية بما يضمن جودة التعليم في جميع الحلقات الدراسية، ومن ضمنها الاهتمام باللغة العربية.. لغتنا التي تميزنا، فهي لغة القرآن الكريم.. حيث وصفها "أبو العباس القلقشندي" في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، بأنها "اللغة التامة الحروف، الكاملة الألفاظ…".
ولأن دولة الإمارات هي موطن التسامح والعطاء، فقد استقطبت الكثير من المدارس الخاصة ودور الحضانات من جنسيات مختلفة، تعزيزا للتنافسية والارتقاء بجودة هذا القطاع الحيوي، حسب أفضل الممارسات العالمية.. حيث تخدم هذه المدارس الجاليات المقيمة، والتي تقدر بأكثر من 200 جنسية.. وللاستفادة من خبرات هذه المدارس، قام كثير من الإماراتيين بتسجيل "عيالهم" في هذه المدارس، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن مناهج هذه المدارس مختلفة عن مناهج المدارس الحكومية، ومن أهم هذه الاختلافات هي طريقة تدريس اللغة العربية.
وبالتالي فإن الطالب يبدأ بالتركيز في سن مبكرة على تعلم اللغات الأخرى المعتمَدة في هذه المدارس، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية. ولعل إطلاق مادة التربية الأخلاقية من قبل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، وتعميمها على المؤسسات التعليمية والتربوية هو أفضل مثال على التفكير الاستراتيجي في الارتباط الكبير بين اللغة والقيم والتنمية والابتكار.. حيث تركز هذه المبادرة على الارتقاء بالهوية الثقافية والعادات والتقاليد الإماراتية.
وتعد اللغة العربية ركيزة أساسية لتدريس مادة التربية الأخلاقية، والتي تهدف إلى بناء الشخصية الفاعلة للنشء وترسيخ القيم والمثل، التي أصّل لها الأجداد وبناة الدار.
ونجحت هذه الاستراتيجية في رفد سوق العمل بالمواهب والمبدعين الذين أسهموا، ولا يزالون يُسهمون، في التطور الذي تشهده الدولة.
وقد أدركت بعض الدول منذ البداية أن الاعتماد على اللغة الوطنية كركيزة أساسية في تعليم المناهج الدراسية في المراحل المبكرة هو الطريق السليم لبناء وعي وثقافة وانتماء الإنسان، وبالتالي تحقيق الريادة العلمية والفكرية والتنمية الشاملة المستدامة في العلوم المختلفة.
وتعد اليابان مثالا ناجحا على تحقيق النهضة الشاملة للمجتمع، حيث يتفرد المواطن الياباني بتمسكه بلغته الأم وبهويته وتراثه وانتمائه لوطنه، إضافة إلى تميزه العلمي والعملي.
وقد كان اعتماد اللغة اليابانية في التدريس وترجمة كتب ومصادر العلوم والتكنولوجيا العالمية إلى اللغة اليابانية وتوفيرها للدارسين اليابانيين سببًا من أسباب هذا التميز الياباني.
ولم يمنع اعتماد اللغة اليابانية في مختلف المراحل الدراسية تمكين الطلبة من تعلم اللغات الأخرى عبر المدارس المحلية أو ابتعاث الطلبة إلى الخارج.
ونتيجة هذه السياسة التعليمية أصبحت اليابان من أفضل عشر دول على مستوى العالم في قطاع التعليم، وأضحت وجهة عالمية للطلبة والدارسين.
ولعل من المهم أن نذكر أن التصنيف العالمي لجودة التعليم لسنة 2022 ضمَّ ست دول "ألمانيا-فرنسا-سويسرا-اليابان-السويد-هولندا"، من العشرة الأوئل، لا تُعتبر اللغة الإنجليزية لديها الأساسية في مناهجها الدراسية، بل إنها تتمسك بتمكين اللغة الوطنية ونشرها على نطاق واسع.
وبالعودة إلى قصة "سيف"، فقد أدرك "أبو سيف" ضرورة الجلوس إلى ولده لشرح الدور الكبير الذي تلعبه اللغة العربية في تكوين شخصيتنا وهويتنا الوطنية.. حيث أقنعه بأن يتحدث اللغة العربية بشكل مستمر، ما سيرفع من ثقته بنفسه وسيساعده في تعلم القيم والثقافة الإماراتية والتراث، الذي يجب أن يعتز به أمام الجميع.
واتفق الاثنان على أن يُخصّصا ساعاتٍ أسبوعية لمساعدة "سيف" في مذاكرة مواده المدرسية بما فيها اللغة العربية.
ختامًا، أترك لكم المجال لمعرفة الأسباب، التي تؤدي إلى تدني مستويات بعض أولادنا وبناتنا في اللغة العربية، وإلى تأثرهم بالثقافة الغربية في تصرفاتهم وسلوكياتهم، التي تشربوها من "ثقافة الواي فاي"، سواء من خلال الحاسوب اللوحي أو الهاتف المحمول أو "البلاي ستيشن" ناهيك بالدور السلبي للعمالة المساعدة الأجنبية.
ولعلكم تتفقون معي بأن دور الأسرة يعتبر محوريا في تكوين شخصية النشء وزرع العادات والتقاليد الإماراتية بهم في سنّ مبكرة.. ويأتي بعدها دور المدرسة في صقل شخصية الطفل من خلال المناهج المتطورة، والتي تركز على تعليم اللغة العربية والمثل والقيم الأخلاقية، بالإضافة إلى الاهتمام بالمواد العلمية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة