تزيد عظمة العمل الأدبي كلما اقترب من حياة القارئ وواقعه وكان يشبه بشرية القارئ بخيرها وشرها.
وبالتالي تزيد عظمة الكاتب حينما يحضر لك في كل مناسبة ويعيش معك بعد أن يغيب جسده.
وقد قيل إن الكاتب الجيد هو من يشعر القارئ معه بأنه صديقه المقرب.. يقفز إلى عقله في كل موقف ويقترب من حياته حد الالتصاق.
كأننا بالفعل نتحدث بهذا كله عن الروائي المصري العالمي نجيب محفوظ، الذي عاد ويعود لتصدر أحاديث مواقع التواصل الاجتماعي بعد وفاته بما يقرب من 16 عاما.
تصدّر اسم "محفوظ" مواقع التواصل، وهو لم يشهدها من الأساس، بالجدل الثائر حول تجديد أغلفة رواياته.
ولستُ هنا بصدد الحديث عن جودة هذه الأغلفة أو رد الفعل الساخر تجاهها، فما يهمني أبعد من ذلك.
دعنا نتفق أن كتابات نجيب محفوظ تُطبع وتباع بكميات كبيرة كل عام منذ صدورها وحتى الآن، لكن الجديد أن بعض دور النشر أرادت أن تضفي على تلك الكتابات بعضا من مسحة الحداثة، وذلك عن طريق اختيار أغلفة جديدة "تناسب العصر" من وجهة نظرهم، فانقلب السحر على الساحر.
لطالما فاجأتنا أعمال نجيب محفوظ بتجددها وحضورها الطاغي في حياتنا، حتى وإن كانت مكتوبة منذ ما يقرب من 80 عاما.. فهل تحتاج أعمال حية لهذه الدرجة إلى أن تُقدَّم بشكل جديد حتى تُناسب "الواقع" أو "العصر" أو "حياة الشباب"؟ هل "محفوظ" بعيد أصلا عن "الواقع" وهو الكاتب المُفرط في واقعيته؟ ألا يمثل "كمال" في "ثلاثية محفوظ" مثلا جيل شبابنا المتشكك التائه الباحث عن نفسه؟
"كمال" في ملحمة الثلاثية -بين القصرين وقصر الشوق والسكرية- وصراعاته ومصيره، وكونه حلقة الوصل بين القديم والحديث، وتشابهه مع أحفاد الأب "أحمد عبدالجواد"، مع اختلاف المصائر.. "كمال" هذا، الذي كان أصغر إخوته، عاصر الجيل القديم وكان الأقرب من بينهم للجيل الحديث.. لذا كان اختلاف مصيره حتميا بسبب اختلاف الزمن، من زمن رومانسي أفلاطوني لزمن أكثر عملية يدوس كل شيء.
"كمال" لم يكن ضحية الظروف، بل كان يحب دور الضحية، ويحب العيش في الأوهام، حتى إذا جاءه الواقع في أقرب نقطة. كان تلك الشخصية المتغنّية بالمثالية في كل شيء.. لا تقبل بغيرها بديلا.. ألا يشبه ذلك كثيرًا انفصال شبابنا عن الواقع وراء مقاطع فيديو أو عالم السوشيال ميديا، الذي لا يعني شيئا بالنسبة للواقع الشامل المعيش؟.. إنه الفارق بين عالم كبير واقعي وبين عالم خيالي وهمي.
أصبح كثير منا "كمال أحمد عبد الجواد"، الذي يلهث وراء حياة أفلاطونية لن تتحقق، ويهلك نفسه وسلامه النفسي في سبيل تحقيقها.. "كمال" هو الشخصية التي حوّلتها مثاليتها الزائدة ورومانسيتها وضلالها إلى النقيض من كل شيء.. من مؤمن متدين إلى متشكك.. من عاشق أسير إلى من لا يريد أن يتمسك بمن يراه مناسبا.. من مُدعٍ للحب الأفلاطوني المجرد من الهوى لدرجة رفض الزواج من حبيبته لما قد "يشوب" الزواج من رغبة إلى شخص يرتاد بيوت الهوى -مثل أبيه تماما- من فيلسوف إلى متشكك في آراء مَن يقرأ لهم من فلاسفة.. أليست هذه تقلبات كثير من شبابنا تجاه ما يتعرض له من سيل مشاعر ومعلومات وآراء متناقضة في هذا العالم الرقمي؟!
شخصية واحدة من شخصيات "محفوظ" تستطيع أن تعطينا مثالا بسيطا على عظمة وتجدد كتاباته، المحشوة بنماذج هائلة من طبائع البشر المختلفة، والتي تخاطب كل زمن، في عمق تحليل وتصوير، لدرجة لا يحتاج معها إلى "تجديد غلاف" يطيل عمره بين شباب اليوم والواقع المعاصر.
"محفوظ" يحلل الجوهر الأساسي للجنس البشري، الذي تنبثق منه كل الشخصيات في كل العصور.. فليعش كما هو بريقا لا يحتاج إلى تلميع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة