أود أن أبدأ بالقول إن هذا المقال يتناول عددًا من المسائل الحساسة والشائكة والمحرجة لإخواننا الفلسطينيين في الأردن وحتى لأهلنا الأردنيين، الذين عانوا وما زالوا يعانون من تدخلات الحركة الحمساوية في أمنهم.
لذلك، أعتذر مقدمًا عن أي حساسيات قد يسببها مقالي هذا في ظل الظروف العصيبة التي تعيشها المنطقة، وفي قلبها أهلنا في الأردن.
لقد تناسى الحمساويون ما فعله الأردن وشعبه وعشائره في دعم قضيتهم عبر عشرات السنين وكيف دافع الأردن عن المدن الفلسطينية حتى أحداث "معركة الكرامة" في نهاية عام 1967، التي عاثت بعدها المنظمات الفلسطينية واليسارية من كل العالم عبثًا في الأراضي الأردنية، إلى أن استطاع الجيش الأردني الباسل ونشامى العشائر القضاء على تلك المنظمات في أحداث "أيلول الأسود" الشهيرة في عام 1970 وانتقالها إلى بلدي لبنان، الذي تسببت له بحرب أهلية دامية استمرت 15 عامًا.
اليوم، يتحدث العالم كله عن تداعيات المظاهرات في الأردن، التي بدأت مع اندلاع الأحداث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول تحت عنوان دعم غزة. واليوم، باتت الهتافات فيها معادية للدولة الأردنية، مشككة في مواقفها، ومطالبة بفتح الحدود ومحرضة على أمن الأردن. وباتت التبعية الحمساوية لمكتب الولي الفقيه ظاهرة للعيان دون مواربة. وما يوم "القدس" خلال هذا العام إلا واجهة لا لبس فيها للتدخل الإيراني في القضايا العربية.
إنه مما لا يخفى على معظم الأردنيين وجود اتفاق قديم بين الحكومة الأردنية والفصائل الفلسطينية بعدم مخاطبة أي قيادي فلسطيني بصورة مباشرة لأبناء الشعب الأردني والعشائر الأردنية.
واليوم، يخالف خالد مشعل وإسماعيل هنية هذا الاتفاق، وبالتالي، فالأردنيون مطالبون بالحفاظ على بلدهم، وليس لدينا شك في ذلك. والجبهة الداخلية في الأردن لا بد أن تواجه كل ما يهدد السلم المجتمعي، وموقف الشعب الأردني الرسمي والشعبي متناغم مع موقف قيادته الهاشمية، حتى وإن خالف كثيرون منهم دعوة وزير الإعلام السابق سميح المعايطة لسحب الجنسية الأردنية من كل فلسطيني يحرض على أمن الأردن، فهم لا يقبلون نشر الفوضى في بلادهم ولا يقبلون استقبال لاجئين من الضفة الغربية وأن تحل إسرائيل مشاكلها على حساب الأرض الأردنية. واختلال التوازن الديمغرافي داخل البلاد قد يؤدي، لا سمح الله، إلى أيلول أسود جديد، حيث يتذكر جميع الأردنيين اليوم الذي لطخ فيه شيوخ العشائر وجوههم بالسواد وزاروا الملك حسين طالبين السماح لهم بمحاربة الفصائل الفلسطينية التي كادت تحتل العاصمة عمان وأهانت قادة الشرطة والجيش، وهو ما نراه اليوم في الشوارع المؤدية إلى السفارة الإسرائيلية حيث بات الاعتداء على أفراد الشرطة أمرًا متكررًا.
قدمت "حماس" وعبر سعيها لإثارة الاضطرابات في الأردن بوادر فرصة لإسرائيل لتنفيذ رغبتها في تهجير فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن، وهو نوع من التماهي الكامل مع اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو الذي استفز الدولة الأردنية بمطالبته المتكررة بترحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية، حيث يرى ذلك اليمين المتطرف أن الأردن هو وطن بديل للفلسطينيين.
وأما عن الدول العربية، فقد بتنا جميعًا نعلم أن "حماس" تعودت على الطعن في مواقف الدول العربية من الأحداث الجارية، وهي تريد إجبار الدول العربية الكبرى على اتخاذ خيارات لا يعلم أحد كنهها ومآلاتها.
ومما يؤكد تلك المخططات الحمساوية الإخوانية التي كانت تستهدف الأردن هو الدعوة التي أطلقتها القطعان الحمساوية ومشغلوها في الخارج يوم الخميس الماضي إلى تصعيد حراك الشعوب العربية أمام البعثات الدبلوماسية والضغط، كما وصفوه، على الحكومات للانحياز للقضية الفلسطينية وكأن الحكومات العربية معادية لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته المحقة، التي تقتات عليها حركة حماس اليوم عبر كسب شعبية بعد دمار لا مثيل له في تاريخ القضية الفلسطينية، تسببت به حماقة الحركة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وهي اليوم، ومن غير أن تشعر، تبارك دعوات كتائب حزب الله العراقي، الذي أعلن استعداده لتجهيز "مجاهدي المقاومة الإسلامية في الأردن" بالسلاح للدفاع عن الفلسطينيين.
وهنا يرد سؤال: لأجل ماذا تهاجم حماس المواقف الأردنية، خصوصًا أن علاقة الأردن بإسرائيل ساعدت الأردن في كسر الحصار عبر الجو بمشاركة دول عربية على رأسها الإمارات ومصر؟ وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الدول العربية التي تقيم علاقات مع إسرائيل هي وحدها من ساعدت غزة في أزمتها الحالية.
قراءة تحليلية لمواقف حماس من الدولة الأردنية منذ بدء الأحداث، يمكنني أن أقول بكل موضوعية إن الأهداف الحمساوية من تلك المواقف تتلخص في الآتي:
أولًا، تجييش الشارع الأردني ضد حكومته والتشكيك بالموقف الرسمي الأردني والتقليل من الخطوات التي قام بها الأردن تجاه العدوان على غزة. وأخيرًا، باتت أبواقهم تدفع علنًا الشارع الأردني نحو التصعيد ضد حكومته.
ثانيًا، تشتيت البوصلة بعد أن أصبح محور المقاومة في وضع لا يحسد عليه وبعد أن تمت تصفية الكثير من القادة العسكريين وبات هذا المحور، وفي مقدمته إيران، عاجزًا عن الرد على اغتيال خيرة قياداته في قلب دمشق والجنوب اللبناني وبغداد.
ثالثًا، استهداف المؤسسات الأردنية حيث باتت تلك الدعوات بمثابة جر للشارع الأردني إلى الفوضى والعنف وإثارة وسائل التواصل الاجتماعي بتغريدات تدعو إلى النيل من العائلة الهاشمية والتذكير بأحداث قد مضت من حروب أهلية بين مكونات أردنية وفلسطينية يتحمل أوزارها كل من المرحوم ياسر عرفات وجورج حبش، كان ختامها مطاردة العشائر الأردنية لآلاف من الشباب الفلسطينيين والعرب والأجانب في أحراش الأردن وقتلهم بعد اعتداءات تلك الفصائل على الجيش الأردني وقتل ضباطه واستباحة شوارع العاصمة عمان، إلى أن انتهت تلك الصفحة المأساوية باغتيال منظمة التحرير لرئيس الوزراء الأردني وصفي التل في القاهرة مطلع عام 1971، وبوادرها وللأسف تتكرر إرهاصاتها اليوم فيما بدأنا نراه يتكرر منذ أسبوع على مشارف بعض المخيمات الفلسطينية مثل مخيم البقعة شمال العاصمة عمان حيث بات الاعتداء على رجال الشرطة الأردنية وإحراق مركباتهم فعلًا يوميًا لبعض الشباب الفلسطيني المغرر به من قبل القطعان الحمساوية الإخوانية.
رابعًا، السعي المتواصل لإقحام الشارع الأردني في أحداث غزة عبر الدعوة لتوسيع نطاق التوتر في الجوار الفلسطيني عبر الشعبوية التي تصدح بها خطاباتهم كل ليلة بعد صلاة التراويح بالقرب من السفارة الإسرائيلية.
خامسًا، تتكشف ساعة بعد ساعة مخططات التنظيم الدولي للإخوان، حيث طالب إسماعيل هنية خلال الساعات الماضية الشعوب العربية بالنزول إلى الشوارع، بينما يقوم فصيل آخر من حركة حماس بتسويق هذا الموقف والحراك بأنه يساند الدولة الأردنية ويساند موقفها، وهو كذب صراح لأن هذه المظاهرات باتت حربًا معلنة بشعارات واضحة تشكك في الدولة الأردنية وتصفها بالعقبة في طريق تحرير الأقصى، كما التهديد الشهير الذي أطلقه جورج حبش قبل المحاولة الفاشلة لاغتيال الملك حسين في عام 1970 في إحدى الشوارع الرئيسية بالعاصمة عمان والتي قتل فيها بعض حراسه. وما كلام بعض القادة الحمساويين عن أن استقرار الأردن بالنسبة لهم هو مصلحة تتقدم على أي مصلحة أخرى إلا كلام مريب لا تثبته أي وقائع.
سادسًا، تبقى أيديولوجية حماس المُكرسة في العقلية الفلسطينية، سواء في الداخل الفلسطيني وحتى في الأردن وبعض البلاد العربية، مشكلة كبرى للنظام في الأردن وهذا يهدد مستقبل بعض دول المنطقة، خصوصًا مع طول مدة الحرب وكثرة المآسي والأزمات الاقتصادية داخل الأردن والدول المحيطة به.
سابعًا، لا أعرف، كباحثة في علم الاجتماع السياسي، ما الذي يمنع القيادات الحمساوية من التعبير علنًا عن عدم رغبتها في التأثير في الساحة الأردنية وعدم إلحاق الضرر بالجبهة الداخلية الأردنية، التي تقوم على توازنات دقيقة تعلمها حماس وقياداتها تمام العلم. وأما الضغط النفسي الذي تشعر به تلك القيادات بسبب أخطائها المتكررة، فلا شأن للأردن به. والرغبة التي تملأ قلب جماعة الإخوان الإرهابية في توظيف الأحداث الجارية للظفر بمكاسب سياسية عبر خلط الأوراق هو أمر يخصها، ولن تكون الأردن مكانًا له أبدًا، ولن يتحقق الشعار الحمساوي الذي تردده تلك الأبواق المأجورة علانية اليوم وهو "كل الأردن حمساوية"، مهما قامت به قيادات حماس من تحريض للعشائر للنزول إلى الشوارع بعد أن أعطت طهران حماس الضوء الأخضر لتطلق حربها ضد الدولة الأردنية بدلًا من السعي في المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية. وهم، أي قادة حماس، الذين بات عليهم أن يدركوا أن تجييش العواطف وفتح الحدود لا يفيد شيئًا.
كان الله في عون الأردن، هذا البلد الصغير الذي يبذل كل ساعة جهودًا للدفع نحو وقف الحرب وقبل ذلك إيصال المساعدات الإنسانية الطبية والإغاثية إلى غزة، ناهيك عن أن معاهدة السلام في شقها الأردني مكّنت عمان من تخفيف الضغوط على السكان في الضفة الغربية. وموقف الأردن منذ الساعات الأولى للأحداث كان واضحًا بأن هذه الحرب هي حرب إبادة. كان الله في عونه وهو الذي يوجد فيه أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني ونصف شعبه ينحدر من أصول فلسطينية. والفعل الدبلوماسي هو ما يملكه الأردن وكل الدول العربية، وهي تخشى توسيع رقعة الحرب من غزة إلى الضفة الغربية مما قد يصعب معه السيطرة على النيران التي ستندلع وقتها في الشرق الأوسط.
في خلاصة، تبدو حركة حماس وقادتها في مراهقة سياسية جديدة تهدف إلى إثارة الرأي العام في الأردن ضد قيادته، مستقوين بوجود كثير من الأردنيين من أصول فلسطينية، ظنًا منهم أن اجتياز الحدود أمر ممكن. وهذا هو ما اضطر المملكة الأردنية للرد العلني عليهم، وهي التي اختارت، مثل كبريات الدول العربية، السلام خيارا استراتيجيا.
وأما الزحف نحو الأقصى الذي يتكلم عنه قادة حماس المقيمون في فنادق قطر، فأعتقد أن طريقه عبر الأردن قد انتهى قديمًا ولا بد من سحب الترخيص الحكومي لحزب "جبهة العمل الإسلامي" الذي يمثل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، الذي بات يدعو علنًا، متغطيًا بأحداث غزة، إلى إثارة الاضطرابات في محافظات الزرقاء والعقبة والكرك وحتى إربد، التي نخشى جميعًا وصول أسلحة المليشيات العراقية إليها عبر الأراضي السورية والتمهيد لأعمال إرهابية داخل هذا البلد الصغير، وهو ما سينتج معه وللأسف استجلاب لأبعاد لا تحمد عقباها وتداعياتها ستخلط كل الأوراق في المنطقة. فهل ستغلب حماس الروح الوطنية التي يملكها كثير من الفلسطينيين المقيمين في الأردن وتقدر ظروف هذا البلد، أم ستجره إلى مستنقع للفوضى الشاملة تحت استجلاب الشعار الشهير للقيادي الفلسطيني أبو جهاد "أن طريق القدس تمر من جونية" وجعلها اليوم تمر من الأردن بعد أن هيأت حركة حماس الإرهابية كل الظروف لحكومة نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد.
لكن هيهات هيهات أن يقبل "النشامى الأردنيون" أن تباع بلادهم في سوق النخاسة الإيرانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة