الهدف الأسمى لهذا الطرح الفكري الخلاق، إنما هو العمل على إقامة شراكات بين القيادات والمؤسسات الدينية في أنحاء متفرقة من العالم.
أفضل توصيف يمكن لنا من خلاله شرح فكرة الحوار بين أتباع الأديان يتمثل في القول: إنها مسيرة لبناء السلام ووضع حد للصراعات البشرية.. مسيرة لبناء الجسور وهدم الجدران، بحيث تكون قاعدة الجسر قائمة على أسس العدالة، عبر التعايش السلمي والمواطنة المشتركة.
في هذا السياق يأتي الدور التقدمي للمملكة العربية السعودية، التي أبدت رغبة كبيرة في زمن المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز في جمع القادة الدينيين والسياسيين تحت سقف واحد للحوار من أجل السلام في العالم، ومن هنا ولد قبل بضع سنوات «مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات» (كايسيد) في فيينا، ليكون منصة للوفاق والاتفاق بين أتباع الأديان التوحيدية وغيرها من المذاهب الوضعية.
الدور الرائد للمملكة في هذا الإطار تعززه توجيهات الملك سلمان، ورؤية ولي العهد الأمير محمد الساعية لإعادة قبس التنوير والمصالحة للأجواء العربية والإسلامية، بعد أن اختطفتها أصوليات، بعضها متشدد والآخر متطرف، وكلاهما يتجاوز بل ويفتئت على صحيح الدين الإسلامي السمح، وقد كان إنشاء مركز الملك سلمان للسلام الدولي في ماليزيا العام الماضي خير شاهد على إيمان المملكة القوي والمستمر بالإرادة البشرية، والقدرة على جعل العالم مكاناً أكثر سلاماً وملاءمة للعيش.
في ظل هذا الإطار كان اللقاء الدولي الثاني لـ«كايسيد» طوال يومي 26 و27 فبراير (شباط) المنصرم في العاصمة النمساوية، وتحت عنوان «حوار بين الأديان من أجل السلام: تعزيز التعايش السلمي والمواطنة المشتركة».
ولعل ما ميز هذا اللقاء بنوع خاص، إطلاق أول منصة للحوار والتعاون بين القيادات والمؤسسات الدينية المتنوعة في العالم العربي، إذ ستوفر هذه المنصة للمسلمين والمسيحيين التفاهم الذي سيسهم بدوره في تأمين المواطنة المشتركة وتعزيزها في الدول العربية.
في كلمته الافتتاحية أشار فيصل بن معمر الأمين العام لـ«كايسيد» إلى أن هذه المنصة كفيلة بسد الفجوة التي تفصل بين المجتمعات، إذ لم يسبق للقيادات الدينية من مختلف الطوائف أن حظوا بفرصة للعمل معاً عبر الحدود الوطنية بطريقة منسقة.
ولدت الأديان التوحيدية الثلاثة مشرقية، فيما صدرت لنا عقول غربية نظريات الصراع، وبشرت بعض الأبواق بنهاية التطور التاريخي في رؤية شمولية لا تتسق والآفاق الرحبة للروحانيات الخلاقة، وعليه يبقى التساؤل «هل هو أوان صحوة الشرق الخلاق» من جديد ليضيء بنوره ومبادراته أجواء معتمة حول المعمورة؟
والشاهد أن الهدف الأسمى لهذا الطرح الفكري الخلاق، إنما هو العمل على إقامة شراكات بين القيادات والمؤسسات الدينية في أنحاء متفرقة من العالم للدعوة إلى حماية حقوق الطوائف الدينية وصونها تحت مظلة المواطنة المشتركة والمساواة، بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو العرق.
على أن قائلاً يقول: لقد استمعنا كثيراً إلى تلك النقاشات الطيبة في القاعات المكيفة، ولم يصل أمر الحوار وتفعيله إلى الشارع العربي بنوع خاص؟
يؤكد فيصل بن معمر صاحب الدور الفاعل في زخم «كايسيد» بالنشاط والحركة، أن المركز يمزج بين التأطير والتنظير العقلاني، وبين الممارسات العملية على الأرض، فعلى سبيل المثال تم تدريب نحو 400 شاب وشابة ينتمون لمؤسسات دينية، ويمثلون أدياناً وطوائف مختلفة من الدول العربية خلال السنوات الثلاث الماضية، أما جوهر التدريب فهو تعميق ثقافة الحوار في الجوار والبيئة والمحيطين المحلي والإقليمي مع الأمل في الوثوب إلى العالمية.
لا يتوقف المشهد الإيجابي الخلاق لـ«كايسيد» عند حدود تدريب هؤلاء فحسب، بل يمتد إلى قيامهم بتدريب شباب آخرين، ليفوز العرب خاتمة المطاف بمتوالية هندسية محبوبة ومرغوبة تعظم السلام، وتقلص من مساحات الخصام، وتتعاطى على رقعة كونية من المواطنة والاحترام المتبادل، شباب يدركون المستقبل بآليات تواصله، لا سيما عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
تذكرنا فعاليات «كايسيد» بزمن ازدهار الحضارة العربية، تلك التي شارك في صنعها اليهود والمسيحيون العرب، ولا سيما السريان، أولئك الذين ترجموا الفكر اليوناني إلى العربية، وتالياً قدموا له الشروحات والطروحات، وتالياً ألفوا عليه، هؤلاء جميعهم كنت لتراهم في بلاط الرشيد، محفوفين بدرجة فائقة من الاحترام والتقدير، قبل أن يمضي بنا الحال في طريق الانسداد التاريخي المعاصر.
في الإطار عينه يحسب لـ«كايسيد» مبادرته الخلاقة، إذ أطلق أول شبكة للمعاهد والكليات الدينية الإسلامية والمسيحية في العالم العربي، والمنوط بها بلورة منهج مشترك بشأن التدريب على الحوار بين أتباع الأديان والثقافات في المؤسسات الدينية عبر العالم العربي.
ما الذي ينتظره العالم في حاضرات العالم من «كايسيد»؟
عند الدكتور الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام أن البشر في حاجة لمبادرات مركز الملك عبدالله ورجالاته ومرجعيته لإنارة الطريق، والعون الدائم للتغلب على التحديات والمشكلات التي تجابه الناس، والمضي قدماً إلى آفاق الحوار من أجل السلام والتعايش.
فيما يذهب البطريرك المسكوني برثلماس إلى أنه يجب على الأديان الوقوف معاً في وجه العلمانية المتزايدة والأصولية، ويتم هذا الهدف وتعزيزه من خلال الحوار الذي هو شكل من أشكال التضامن.
ولدت الأديان التوحيدية الثلاثة مشرقية، فيما صدّرت لنا عقول غربية نظريات الصراع، وبشرت بعض الأبواق بنهاية التطور التاريخي في رؤية شمولية لا تتسق والآفاق الرحبة للروحانيات الخلاقة، وعليه يبقى التساؤل «هل هو أوان صحوة الشرق الخلاق» من جديد ليضيء بنوره ومبادراته أجواء معتمة حول المعمورة؟
الحقيقة المؤكدة أن الطريق طويل ومليء بالمصاعب والعقبات، فيما الأجواء الدولية ضبابية والسلام يكاد يتوارى، لتفتح الحروب مسارات الموت من جديد، غير أنه في ظل تشاؤم العقل يبقى أبداً ودوماً تفاؤل الإرادة.
الخلاصة.. «كايسيد» شمعة تنويرية في أزمنة علمانية وأصولية ظلامية.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة