من الأزهر إلى الفاتيكان تتجلى الرؤى الإيمانية بروح إيجابية خلاقة، لا عبر توجه سلبي يقود إلى الصراعات.
لعل من أهم العلامات المميزة في العام الماضي 2017 والأعوام القليلة التي سبقته، تلك العلاقة التي تعمقت وتجذرت ما بين الأزهر الشريف وحاضرة الفاتيكان، وقد تُوجت بلقاءات متعاقبة بين فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وبين البابا فرنسيس بابا روما، وكان آخرها زيارة البابا إلى مصر في أبريل المنصرم.
عديدة هي الملفات الوفاقية التي جمعت الطرفين، وقد كان الحوار هو الدرب الآمن الذي سارت عليه رسل الجانبين، وولد الحوار جواراً إنسانياً روحياً وفكرياً، وبلور مواقف واضحة وحازمة تجاه كثير من المعضلات التي تجابه الإنسان لا سيما في الشرق الأوسط، حيث لا تزال الحقوق سليبة، الأمر الذي يتبدى بصورة واضحة في القضية الفلسطينية التي جاوزت العقود السبعة، بما فيها من ظلم وغبن للإنسان الفلسطيني صاحب الأرض الحقيقي، وبعيداً عن التهويمات غير الصادقة.
الذين قُدر لهم أن يشاركوا في «مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس»، الذي جرت وقائعه الأسبوع الماضي في القاهرة، استمعوا إلى الرسالة الفاتيكانية للشعوب العربية والإسلامية، وقد حملت موقف الفاتيكان الواضح الذي لا لبس فيه لجهة مدينة القدس، حيث الرفض الكامل لفكرة تهويدها، أو بقاء إسرائيل كيد عليا متسلطة عليها والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في قيام دولته الفلسطينية المستقلة على التراب الفلسطيني، وأن تبقى القدس مدينة مفتوحة للصلاة ولممارسة الشعائر الإيمانية في كل وقت لكل أتباع الأديان، لم يختلف موقف الفاتيكان كثيراً عن موقف الأزهر، وقد جمعتهما مشاهد مشتركة عديدة، ولهذا فقد صدرت عن الأزهر الشريف مؤخراً دراسة تحمل معالم وملامح هذا التعاون الذي يبغي الوصول إلى عملية صناعة السلام العالمي.
دراسة الأزهر تذكرنا بأن هناك تاريخاً منسياً لعلاقة أبناء إبراهيم بعضهم ببعض، وأن السلام كان ولا يزال، هو الركيزة الرسمية في تلك العلاقة، ففي الكنائس عبر أقطار العالم بأسره، يلتفت المصلون بعضهم إلى البعض الآخر قائلين: «سلام لك»، وفي العالم العربي والإسلامي إذا دخلت متجراً أو بيتاً، مسجداً أو مؤسسة، فإن التحية هي «السلام عليكم» والجواب دوماً هو «وعليكم السلام»، وحتى فيما يخص الديانة اليهودية، وبعيداً عن التوجهات ذات المسحة السياسية كالصهيونية تحديداً، فإنها تحض مؤمنيها على التنادي بتحية السلام «شالوم» المجردة، كما أن كل واحد من الأديان الثلاثة يعلّم أتباعه أن يحيوا الأصدقاء والغرباء بقبول حسن وبذراعين ممدودتين بحرارة، إن السلام لهو الفاتحة وهو الخاتمة أيضاً.
وفي ظل التحديات المعاصرة التي يحفل بها القرن الحادي والعشرون، تضاعفت الجهود الموكولة للمؤسسات الدينية العريقة والملقاة على عاتقها، من أجل أداء هذه الأمانة على أتم وجه، كي ينعم الناس، كل الناس بالسلام، وليستقيم ما أعوج من أمور الحياة.
الذين قُدر لهم أن يشاركوا في «مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس»، الذي جرت وقائعه الأسبوع الماضي في القاهرة، استمعوا إلى الرسالة الفاتيكانية للشعوب العربية والإسلامية، وقد حملت موقف الفاتيكان الواضح الذي لا لبس فيه لجهة مدينة القدس، حيث الرفض الكامل لفكرة تهويدها
يعنّ لنا هنا أن نطرح علامة استفهام: هل علاقة الأزهر بالفاتيكان في هذه الآونة تمضي بنا في سياق منافٍ ومجافٍ لرؤى وتنبؤات ذاتية تحاول تحقيق ذاتها بذاتها؟
بالقطع نحن نتناول إشكالية قراءة وتنبؤات عالم الاجتماع الأمريكي الراحل «صموئيل هنتنجتون» الذي جعل من المنطلقات الثقافية والدينية ركائز للتصادم الإنساني، وكان له أن قسم العالم إلى قسمين بين شرق وغرب، وبين معسكرين يهودي مسيحي في جهة، وإسلامي كونفوشيوسي في جهة ثانية، لكن تعانق الأزهر والفاتيكان، أظهر نمطاً أكثر قوة وصلابة، في مواجهة هذه الدعاوى المغشوشة، وبخاصة في ظل التحديات التي تواجهها قامتان كبيرتان تحملان على عاتقهما هموم شعوب وأجيال مستقبلية، شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان.
علاقة الأزهر بالفاتيكان ولا شك تقودنا، ومن جديد، إلى مسألة الجدل القديم القائم حول هل الظروف أم الشخصية هي التي تشكل الأحداث، وقد حسم لصالح الشخصية، وهو ما يتبدى بالفعل في شخص الدكتور الطيب والبابا فرنسيس، وقد كانت الإرادة الصالحة لكليهما هي الأساس القوي الذي بُني عليه صرح المودة المتبادلة، ورؤية التعايش المشترك، والسير معاً نحو عالم السلام.
أفضل من تحدث عن العلاقة بين الأزهر والفاتيكان في تقدير صاحب هذه السطور البروفيسور «أندريا ترنتيني» أحد أبرز المسؤولين في جمعية سانت إيجيديو (جمعية للحوار والسلام) حين قال: إن الاندماج الكبير والمباشر لمؤسسة كبيرة بحجم الأزهر وإمامها الأكبر، الذي يعد أحد أهم القيادات السُنية، في الحوار، مؤكداً أنه أمر إيجابي، لكنه ليس فقط حواراً إسلامياً – مسيحياً، بل حوار بين حضارتين وعالمين يجب عليهما سوياً إعادة اكتشاف لغة تفاهم مشتركة لأن مشكلة الآخر هي معضلة القرن الحادي والعشرين».
والمؤكد أن سنوات التواصل الماضية بين البابا والإمام قد أثمرت عبر الجهود المشتركة والبنّاءة نقاط تواصل على الطريق، تهدف إلى بناء الجسور بين الشعوب على اختلافها، كي يتحقق السلام المأمول عن طريق التعارف الشكلي بالآخر، بثقافته وبدينه، وبإيديولوجياته، فتسود بذلك روح التسامح ويزهو الاحترام وينعم الفرد بالطمأنينة.
من الأزهر إلى الفاتيكان تتجلى الرؤى الإيمانية بروح إيجابية خلاقة، لا عبر توجه سلبي يقود إلى الصراعات، وينمي الأزمات كالعنف والإرهاب، وذلك من خلال الاتحاد في الرؤى والأهداف، ومن أجل مواجهة ومجابهة الإرهاب والتطرف والعنصرية والحروب الدامية، مناصرة الضعفاء وإيواء المشردين، هل وصل الطريق بين هاتين المؤسستين العريقتين إلى النهاية؟ كلا بالمرة، إنها البداية، في عصر هائج مائج، مضطرب يحتاج إلى مسح الغبار الذي لحق بمنظومة الإنسانية عبر العقود الماضية، الأمر الذي يصنع الفارق الحقيقي.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة