مؤتمر الأزهر انتصر للقدس بصفتها عمقاً حضارياً دينياً للمنطقة، وعنصر شراكة وتعايش بين مختلف المِلَل السماوية، وعمقاً عربياً إقليمياً
ربما لأول مرة تشهد المنطقة العربية مؤتمراً عن القدس؛ ينطلق من لغة وقيم جديدة تخلّص القضية الفلسطينية من كل تلك المنابر التي طالما عبثت بالقضية وجعلتها وسيلة لخدمة أهدافها، حتى باتت لدينا نسخ متنوعة للقضية الفلسطينية وادعاء الدفاع عنها؛ نسخة إيرانية وأُخرى تركية وإخوانية وقطرية وحمساوية أيضاً، جاء المؤتمر ليجعل منها قضية حضارية إسلامية عربية إقليمية وليخلِّصها من كل الشغب الذي ظل يديرها دون جدوى، ومن عمليات الاختطاف التي تتعرض لها كل يوم في أروقة الأنظمة والجماعات الحركية، شاركت في المؤتمر أطياف واسعة دينية وفكرية وسياسية، مثّل تنوعها انعكاساً لشمولية المعنيين بالقضية وأنها ليست حكراً على تيار أو طرف مهما حاول الاستحواذ عليها؛ واتخاذها مُبرراً لبناء شرعيته ووجوده وسلوكه السياسي .
أبرز أشكال التخلّص وأكثرها محورية هي التي تنطلق من إعادة بناء خطاب جديد حول القضية، وهو ما حدث في المؤتمر؛ خطاب ينتصر للقدس بصفتها عمقاً حضارياً دينياً للمنطقة، وعنصر شراكة وتعايش بين مختلف المِلَل السماوية، وعمقاً عربياً إقليمياً راسخاً
أسوأ ما حدث للقضية الفلسطينية، طيلة العقود الماضية، أنها ظلت العنوان الرئيسي في كل مشاريع الكيانات والجماعات الحركية، السنية والشيعية، وحتى القومية منها، القدس قضية وعنوان رئيسي حاضر بشكل يومي في كل خطابات وإعلام النظام الإيراني وقد جعلها بالنسبة له متكأً وشعاراً منذ الثورة البائسة التي غيّرت وجه المنطقة إلى الأسوأ، واستبدلت إيران المتحضرة بإيران التي تنتظر المهدي والسرداب، وتنشر الإرهاب والطائفية في كل مكان .
القدس وفلسطين هما البضاعة الأولى لدى حزب الله الإرهابي الإيراني في لبنان، والعنوان العريض الذي يحاول أن يتفيأ تحته لتنفيذ كل جرائمه في المنطقة، واستمرار اختطاف الدولة اللبنانية (الطريق إلى القدس يمر عبر القصير) هذه العبارة الشهيرة لأمين عام الحزب تلخِّص مستوى المتاجرة الرخيصة الذي تتعرض له القضية الفلسطينية .
(على القدس رايحين .. شهداء بالملايين) الشعار السطحي الذي طالما رددته جماعة الإخوان المسلمين، واستمالت به الجماهير وباعت عليهم مشروعها الآيديولجي الذي قدم أسوأ نماذج في العمل السياسي في المنطقة
وحتى في تركيا، لم تسلم القضية الفلسطينية من جعلها محوراً للدعاية السياسية والجماهيرية، وتسجيل بطولات وهمية تُباع على الداخل وعلى الإقليم. .
وحتى حركة حماس الفلسطينية يمكن اليوم وصفها بأنها أبرز إشكالات القضية الفلسطينية والجماعة التي تحولت إلى دكان في السوق السياسي؛ يعرض القضية على زبائنها المحتملين من طهران إلى أنقره وصولاً إلى الدوحة .
ما لا يلتفت إليه الشارع العربي كثيراً هو أن كل أولئك المتاجرين بالقضية هم الأقل نفعاً لها ولإنسانها، والأقل تأثيراً في مجريات أحداثها لا على المستوى السياسي ولا حتى التنموي والإنساني. ومهما تسمَّت الفيالق والكتائب الإرهابية في الحرس الثوري الإيراني بأسماء القدس وفلسطين؛ فهي ليست أكثر من عصابات للقتل والتدمير والإرهاب في سوريا واليمن وغيرهما، ومهما احتفلت طهران بيوم القدس فهي لم تقدم للفلسطينيين سوى مزيد من الانقسام والتراجع، ولنا أن نقيس على ذلك كل الذين ظلوا يصرخون بالقضية من مختلف المنابر، ولم يقدموا لها سوى ذلك الصراخ .
لأننا في المملكة والخليج لا نفتقر لسؤال الشرعية، ولا نبحث عن مبرر لشرعية كياناتنا فقد جعلنا من القضية الفلسطينية التزاماً أخلاقياً إسلامياً عربياً، وجعلنا من دعم الإنسان الفلسطيني ثقافة حقيقية في واقعنا الخليجي، وتحركنا على المستوى السياسي وقدّمنا مبادرات ظلت تتعرض لكل أشكال التعطيل من المتاجرين بالقضية، ومنذ قمة فاس وما بات يُعرف بمشروع فهد للسلام العام ٨٢ وصولاً إلى مبادرة السلام العربية في بيروت العام ٢٠٠٢، كان العمل السياسي الفعلي المؤثر هو مشروعنا الحقيقي لفلسطين من أجل الوصول إلى حل حقيقي وشام ، بينما كان باعة القضية يستميتون في بقائها بضاعة رائجة للكسب والمزايدة، ومع ذلك استمر عملنا لتخليص القضية من كل محاولات المتاجرة بها .
أبرز أشكال التخلص وأكثرها محورية هي التي تنطلق من إعادة بناء خطاب جديد حول القضية وهو ما حدث في المؤتمر ؛ خطاب ينتصر للقدس بصفتها عمقاً حضارياً دينياً للمنطقة، وعنصر شراكة وتعايش بين مختلف المِلَل السماوية وعمقاً عربياً إقليمياً راسخاً. هذا الاتحاد في صناعة خطاب جديد بشأن القضية الفلسطينية هو أول الخطوات لإعادة توجيهها نحو مستقبل يجعل من الحل استحقاقاً حضارياً عاماً يستحثّ العالم المتحضر للتحرك، ويبني وعياً جديداً في الشارع العربي للقضية التي طالما عبثت بها الحزبية والحركية، وجماعات ودول الإسلام السياسي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة