الرؤساء الأمريكيّين قد وعدوا دوما بإعطاء نواب الرئيس المزيد من السلطات.
جاء إعلان المرشَّح الديمقراطيّ جوزيف بايدن لسباق الرئاسة الأمريكي 2020 منذ أيام، والخاصّ باختياره السيناتور كمالا هاريس ليفتح الباب واسعا أمام قصّة نائب الرئيس، والتي عادة ما كان يلتفت إليها أحد، فقد كان الاهتمام كلّه ينصبّ على المرشَّح للرئاسة، في حين يُعتبَر النائب ضمن اﻷوراق التكميليّة أو هكذا يُخيَّل للناظرين.
عدّة أسئلة نحاول أن نفكَّ شفرتها في هذه السطور، تبدأ من عند إنشاء المنصب، ووصولا إلى أهمية اختيار "كمالا "، هذه المرّة وفي حالة بايدن تحديدا.
أُنشِئَ منصب نائب الرئيس بالتلازم مع منصب الرئيس بمقتضى الدستور ووجوده قائم لسببَيْن لا أكثر:
أوّلا: أن يخلف الرئيس في حالة خُلُوّ المنصب .
ثانيا: أن يرأس مجلس الشيوخ مدليا بصوته المرجّح، متى تساوى عدد المؤيّدين وعدد المعارضين عند التصويت على قرارٍ ما.
أمّا القيمة الرئيسيّة لمنصب نائب الرئيس كرصيد سياسيّ للرئيس فهي انتخابيّة. فبصفة تلقيديّة، يُطبِّق مرشَّحو الرئاسة قاعدة بالغة الأهمية في اختيارهم لرفيق المعركة الانتخابيّة وهي أن يجلب معه تأييد ولاية واحدة على اﻷقلّ، ويُفضَّل أن تكون ولاية كبيرة، كان من المحتمل ألّا تؤيِّد الرئيس.
وهناك قاعدة أخرى تقضي بأنّ المرشَّح لمنصب نائب الرئيس ينبغي أن يكون من منطقة تختلف عن تلك التي أتى منها المرشَّح لمنصب الرئيس، وأن يكون كلما كان ذلك ممكنا، منتميا إلى قسم فرعيٍّ في حزبه يختلف فكريّا وعِرْقيّا عن مرشَّح الرئاسة.
والشاهد أن الرؤساء الأمريكيّين قد وعدوا دوما بإعطاء نواب الرئيس المزيد من السلطات، لكنّهم كانوا في أغلب الأحوال ينكثون وعودهم، ولا يستطيع أحد أن يفسّر ذلك بدقّة. ربّما كان الأمر لا يَعْدو كون اقتسام المسؤوليّة أمر مثيرا للمتاعب.
غير أنه من المؤكّد أن أسلوب اﻹدارة عامل رئيسي، وتوجُّهات الرئيس كذلك، فعلى سبيل المثال كان الرئيس الديمقراطيّ بيل كلينتون يعتمد كثيرا على نائبه "آل جور"، وظهر جور كواحد من أكثر الشخصيّات تأثيرا وجدارة بالثقة في البيت اﻷبيض خلال عهد كلينتون.
قبله وفي إدارتَيْ جورج بوش الابن، مَثَّل ديك تشيني صمام اﻷمان بالنسبة للرئيس، لا سيّما من خلال خبرته العسكريّة، وإنْ استخدمها بطريقة أدخلت واشنطن حتّى الساعة في مستنقعات بات الخروج منها ليس باليسير.
تاريخيّا تولّى تسعة نوّاب رؤساء منصب رئيس بعد وفاة ساكن البيت الأبيض، كان آخرهم ليندون جونسون، بعد اغتيال جون كيندي عام 1963، وجيرالد فورد بعد استقالة ريتشارد نيكسون جَرّاء فضيحة ووترغيت.
يكتسب حديث نائب الرئيس في بطاقة بايدن أهمية خاصّة، لا سيّما وأنّ الرجل غير كاريزماتيّ بالمرّة، وطوال أربعة عقود أو أكثر من عمله العامّ، لم يشكِّل علامة مميَّزة، أو يُعرَف عنه رؤى تقدُّميّة على الصعيدين الداخليّ والخارجيّ، كما لم يشارك في بلورة سياسات أمريكيّة تسهم في تعزيز فكرة القرن اﻷمريكيّ.
عطفا على ذلك، فإنّ تقدّم بايدن في العمر، وحالته الصحيّة، جعلت المخاوف من حوله تزداد بالنسبة للديمقراطيّين، وبخاصّة مع مقدرة ترامب العجيبة في تعديل اﻷوضاع وتغيير الطباع في الساعة الحادية عشر من العملية الانتخابيّة وهو اﻷمر المتوقَّع بدرجة غالبة.
منذ مارس/ آذار الماضي أعلن بايدن أنه سيختار نائبة له في حال فوزه في الاقتراع الرئاسي، والمعروف أنه حتّى اﻵن نظّمت الولايات المتحدة نحو 58 انتخابا في تاريخها، ومع ذلك لم تُنتخَب امرأة أو رئيسة نائبة للرئيس.
لماذا كمالا هاريس تحديدا نائبة لبايدن في هذا التوقيت؟
قبل نحو أسبوع التقطت عدسات الكاميرات بضع كلمات على مفكرة بايدن التي يحملها في يده مقرونا فيها اسم "كمالا" بعبارات من نوعيّة "موهوبة"، و"احترام كبير لها"، ما زاد التوقُّعات بشأن السيناتورة عن ولاية كاليفورنيا.
لا يخلو اختيار بايدن لسيّدة من أصول مهاجرين، فعائلتها خليط من جامايكا والهند، ومن عرق غير أبيض، لا يخلو من إشارات لا توفّرها العقول التي تدرك الأزمات الداخليّة في البلاد في السنوات الأربع اﻷخيرة.
بداية، هناك مغازلة واضحة لنساء أمريكا اللواتي يشعرن بأنّه حان الوعد لكي ترتقي المرأة في البلاد سُلَّم القيادة، ويشعرن بأن المرأة اﻷوربيّة مضت في طريق أبعد، وتسلّقت سلّما أرفع ممّا وصلت إليه الأمريكيّات، فهناك رئيسة الوزارة الرفيعة القدر كما الحال مع مارجريت تاتشر، وهناك المستشارة ميركل، وغيرهنّ ممَّن قُدْن زمام أوروبا بأكملها وليس بلادهن فحسب.
يأمل بايدن أن تكتسب حملته الملايين من اﻷصوات النسائيّة الغاضبة على ترامب، ما يعني أن فرصته تتحسّن وأمله يتعزّز في الوصول إلى البيت اﻷبيض.
الجزئيّة اﻷهمّ ربّما اختيار "كمالا"، موصول بمسألة التسارع والتصارع العِرْقيّ الذي طفا على السطح في الأشهر اﻷخيرة، وحالة الثورة والفورة والتظاهرات التي عَمّت البلاد.
هنا اﻹشارة لا تحتاج إلى توضيح، والسعي لاكتساب أصوات الأمريكيّين من أصل أفريقيّ تبدو بديهيّة، والتساؤل على الألسنة هل يكون السود في أمريكا هم مفتاح نجاح بايدن؟
يهتمّ الأمريكيّون بـ ـ"كمالا"، بشكل خاصّ أكثر من أيّ نائب رئيس سابق في العقود الأخيرة لأكثر من سبب، والبداية من عند اﻷوضاع الصحّيّة لبايدن، والتي قد تقطع الطريق عليه في أيّ وقت ويضحي ساعتَها غيرَ قادر على إكمال الولاية الرئاسيّة، وعندها تضحي "كمالا" رئيسة الولايات المتحدة، كأوّل أمريكيّة سيّدة ومن أصول أجنبيّة لمهاجرين سُمْر البشرة.
ناهيك عن ذلك فإنه غالبا ما ستكون "كمالا"، حلقة الوصل بين بايدن حالَ نجاحِه وبين رموز إدارة باراك أوباما السابقين، وأوباما في المقدّمة، ومعه جماعته الذين باتوا يسعون إلى بَلْوَرة توجُّه سياسي بملمح وملمس مغاير لأمريكا اﻷنجلو-ساكسونيّة، وهذه قصّة أخرى لنا معها عودة، وبخاصة دور أوباما في الجامعات اﻷمريكيّة.
اختيار بايدن لـ"كمالا" اختيارٌ براجماتيّ وليس توافقا عقليّا أو قلبيا، فالسيناتورة السمراء هاجمته بضراوة من قبل، ما يجعل الاعتقاد بأنّهما يعزفان على نوتة موسيقيّة واحدة أمر غير حقيقيّ، ولكنّها متطلّبات الانتخابات والسباق.
الاهتمام بـ"كمالا" انعكس على حملة الرئيس ترامب، والتي وصفتها بأنّها يساريّة متطرّفة، ولا تزال كلمة "يسار" في الداخل الأمريكيّ تسبِّب خوفا وهلعا كبيرَيْن عند أنصار اليمين، في حين وصفها الرئيس بأنها أكثر فظاعة ووضاعة، وإن كان ينمّ هذا الوصف القاسي عن شيء، فإنّه يشير إلى أنّ كمالا يمكن أن تمثِّل الرقم الصعب في حملة بايدن الانتخابيّة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة