ما أعلنته السعودية والدول الأربع المقاطعة لقطر منذ بدء الأزمة، وهو أن الخلاف مع القيادة القطرية وليس مع الشعب القطري
الغباء السياسي وحده يقنع السياسي الصغير بأنه لاعبٌ كبيرٌ، وكلما رفض الاقتناع بالحقيقة والتسليم للواقع زاد تخبطاً وخطلاً، ليس من شاهدٍ أوضح على هذا من قرارات صانع القرار القطري الذي لم يفهم بعد أبعاد الأزمة الكبيرة التي تعصف به.
تجرأت القيادة القطرية على ما لم تتجرأ عليه أي دولة من قبل، ما عدا النظام الإيراني والقذافي في إحدى خطراته المعروفة، وذلك بطرحها تدويل الحج والذي كان الرد السعودي عليه قاطعاً بأنه إعلان حربٍ، وهو كذلك، فتراجعت قطر وسعت لتسييس الحج في محاولة للخروج من المأزق الذي وضعت نفسها ووضعها مستشاروها المرتزقة فيه.
لم تساوم السعودية يوماً على موضوع الحج وحق كل مسلمٍ فيه حتى وإن وقفت في وجه العالم، ولم تألُ جهداً في رعاية وخدمة الحرمين الشريفين، والحجاج والمعتمرين، وهو أمرٌ شهد به القاصي والداني، وكان اختيار القيادة القطرية لهذا الملف للتصعيد ضد السعودية قراراً بالغ الخطأ، وقد جاء الردّ السعودي حاسماً وحازماً.
استقبل نائب الملك وولي العهد، الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني، الوريث الحقيقي لعرش الحكم في قطر لولا انقلاب جدّ تميم على أخيه الأمير الأسبق لقطر، وقدّم شفاعة لحجاج قطر فاستجاب الملك سلمان لوساطته، وأمر بتسهيل كل الطرق للحاج القطري براً وجواً، وعلى نفقته الخاصة، ففتح منفذ سلوى على مصراعيه، واستعدت الطائرات في مطار الأحساء ومطار الملك فهد لاستقبال الحاج القطري، وأمر بسبع طائراتٍ لنقل الحاج القطري مباشرة من الدوحة إلى مطار الملك عبد العزيز في جدة، وقد استقبل الملك بنفسه الشيخ عبد الله آل ثاني في مقر إقامته في طنجة المغربية.
وبحسب ما كتبه الشيخ عبد الله في حسابه في «تويتر»، فقد «تفضل الملك كعادته بالموافقة وأمر بتخصيص غرفة عمليات خاصة بطاقم سعودي تتولى شؤون القطريين وتكون تحت إشرافي في ظل قطع العلاقات»، وأضاف «غرفة العمليات الخاصة لخدمة الشعب القطري تتولى جميع طلبات القطريين من حجاج وزوار وأصحاب حلالٍ».
الرسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذا التحرك السعودي المحكم توضح بجلاء ما أعلنته السعودية والدول الأربع المقاطعة لقطر منذ بدء الأزمة، وهي أن الخلاف هو مع القيادة القطرية وليس مع الشعب القطري، بل وليس مع أسرة آل ثاني الحاكمة العريقة، وأنها (السعودية) تفتح ذراعيها لأي قطري، ما عدا القيادة التي أضلتها أوهامها وتجرأت على العدوان والخيانة.
في موضوع الحج انتصرت السعودية انتصاراً كبيراً على محاولات التشويش القطرية، والحاج القطري وصل العشرات منه للمشاعر المقدسة منذ فتح المنافذ، الجديد هو الرسالة السياسية القوية باختيار الشيخ عبد الله آل ثاني لقبول وساطته ودعمه، ومن توهّم أنه قادرٌ على استلاب المشروعية السياسية من جيرانه والسطو على إرثهم وجد نفسه مهدداً في مشروعيته السياسية هو، والتهديد جادٌ وكبيرٌ هذه المرة.
حين تبحث القيادة القطرية عن ملجأ سياسي في إيران أو تركيا، فإنها تعاند الواقع والحقائق على الأرض؛ فامتداد قطر الطبيعي هو في دول الخليج المقاطعة لقطر، وعمقها الاستراتيجي في الرياض وأبوظبي والمنامة والقاهرة، وليس في طهران ولا إسطنبول.
مثالاً يوضح المقصود هنا، فقد جاء في كلمة الشيخ عبد الله الإشارة لـ«أصحاب الحلال» وهي الإبل والغنم، وهذا إرثٌ اجتماعي عريقٌ، لكنه بالإضافة إلى ذلك يشكل منظومة اقتصادية لشريحة كبيرة من المجتمع الخليجي، وقد اعتاد المواطن القطري أن له في الأراضي السعودية مثل ما للمواطن السعودي، حيث رخص السلع والمشاركة في الكلأ والمياه؛ ما يعني تخفيض التكاليف بشكلٍ كبيرٍ، وملاّك الإبل بالذات ينفقون عليها مبالغ طائلة، ويستثمرون فيها استثماراً كبيراً، وقد كان منظر مغادرة الإبل القطرية للسعودية موجعاً لملاكها، وها قد جاء قرار الملك بتخصيص غرفة عملياتٍ خاصة لخدمة المواطن القطري تحت إشراف الشيخ عبد الله.
سياسة ثابتة للسعودية منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز وإلى اليوم، وهي عدم الطمع بتاتاً في جيرانها، وقد نقل عنه فيلبي قوله: «لكنني أؤكد لكم أنني لن أقتطع بوصة واحدة من الحدود خارجاً مما أملك. ليس لديّ مطلبٌ تجاه العرب، وليس هنالك ما أخشاه من جانبهم. أنا قانعٌ تماماً وراضٍ بأن أظل على ما أنا عليه، وأن أخدم ربي وأرعى المصالح الخاصة ببلدي».
وعلى العكس من هذه السياسة، فقد تملّك الوهم حمد بن خليفة أمير قطر السابق، ومعه حمد بن جاسم، ومن بعده ابنه تميم في قدرتهم على حكم الدول العربية الكبرى، وساروا على هذه السياسة لأكثر من عشرين سنة، ونشروا الخراب والدمار، ودعموا الإرهاب والإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة وتنظيم داعش ومليشيا الحوثي، ولم تزل الحقائق تتكشف كل يومٍ عن مزيد خيانة وتآمرٍ، ولم تصل الأمور لمداها بعد.
نشرت البحرين تسريباً لمكالمة لحمد بن جبر مع الإرهابي علي سلمان، ونشرت الإمارات حواراً مع عيسى خليفة السويدي، وهو عضو سابق في التنظيم السري لجماعة الإخوان في الإمارات، وقد كان التآمر واضحاً في الموقفين، والدعم القطري اللامحدود لكل مخربٍ في دولٍ هي أقرب الدول لقطر ولشعبها، فكيف بغيرها من الدول.
الحرب على الإرهاب تتسع، وتحديداً بعد قمم الرياض الثلاث، وذلك ما لم تستوعبه القيادة القطرية، وها هي تحت المقاطعة وتحت الرقابة الدولية على تمويلها للإرهاب تشعر بالعجز، ويبدو المشهد السياسي في المنطقة وهو يتجه نحو آفاقٍ أكبر بكثيرٍ من قطر ومشكلات قطر.
الانفتاح السعودي باتجاه العراق وهو دولة عربية مهمة والذي تبعه انفتاح إماراتي يعني مزيداً من إعادة ترتيب توازنات القوى في المنطقة، وقد وقفت السعودية بحزمٍ ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا، وهي عضو فاعلٌ في التحالف الدولي ضد «داعش»، وهي قدمت كل ما يمكن لدعم ضرب الدولة العراقية للتنظيم، وهي تستقبل المسؤولين العراقيين وزعماء الكتل السياسية، وتسعى لفتح آفاقٍ جديدة للعلاقات السياسية بين البلدين.
أخيراً، فالسعودية والإمارات تحققان تقدماً كبيراً في الملف اليمني بعد طرد قطر من التحالف العربي لدعم الشرعية، والملف الليبي يتجه لحلولٍ أرحب بعد فضح الدور القطري في دعم الإرهاب وجماعاته وتنظيماته في ليبيا.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة