الأحزاب الكردية لا تختلف عما تشهده الأحزاب العربية، سنيّة كانت أو شيعية، في انقساماتها وتناقضاتها ومعاركها الخفيّة والعلنية.
لم ينظر مسعود البرزاني إلى ساعته عندما أعلن الاستفتاء، ولم يكن يتوقع التداعيات الإقليمية والدولية التي أثارها، ثم بعد أن اتضحت الرؤية، وافق على الانسحاب من رئاسة إقليم كردستان، والاختفاء وراء الكواليس، ولكنه لم يقطع شعرة معاوية مع بغداد من خلال تورية مواقفه وآرائه التي أعاد صياغتها من أجل تسويق بضاعته من جديد، كما أن بغداد لا تنسى أن الأكراد كانوا شركاء في إسقاط النظام السابق من خلال المحاصصة، والحالة هذه، لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة في السياسة، هذا المبدأ ينطبق على الأكراد كما ينطبق على الشيعة والسنة المتآلفين في تحالفات واتفاقيات. لقد كان رئيس الوزراء حاسماً في موضوع الاستفتاء، واستعادة كركوك، الخزين النفطي الهائل الذي كان الأكراد يصدرون جزءاً كبيراً منه إلى إيران وتركيا وجهات أخرى.
تبقى إيران لاعبا أساسياً في حسم تشكيل الحكومة العراقية، وهي تسعى إلى استمالة الأكراد لتجميع كتلة برلمانية تستطيع تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، من خلال التحالف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والكتل الأخرى
إن الأحزاب الكردية لا تختلف عما تشهده الأحزاب العربية، سنيّة كانت أو شيعية، في انقساماتها وتناقضاتها ومعاركها الخفيّة والعلنية، الشيء المعروف أن الأكراد يشكلون لأي حكومة عراقية مقبلة، ما يُطلق عليه "بيضة القبان" في المعادلة، وبدونهم لا يمكن أن يتحقق أي تقدم في الأزمة الحالية التي تعانيها تشكيل الحكومة العراقية، وكما هو معروف أيضا أن التحالف الكردستاني شكل منذ أول انتخابات شهدها العراق عام 2005، أحد الأركان الرئيسية في رسم ملامح الحكومات الائتلافية السابقة كشريك لها، لكن الأمور تغيّرت في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد ما أعلن مسعود البرزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مشروع استفتائه الفاشل، ما أدى إلى تمزق التحالف بين الحزبين الرئيسيين: الحزب الديمقراطي، وحزب الاتحاد الوطني، وقد وصل هذا التمزق إلى أن الأول يتهم الثاني بالخيانة، والثاني يتهم الأول بمغامرة الاستفتاء، ذات النتائج الكارثية، وهذا لا يعني أن الحزبين لا يتقاسمان السياسة ذاتها في فرض النفوذ وممارسة الفساد الإداري، وكان نفوذهما مطلقاً قبل أعوام طويلة، إلا أن متغيرات ظهور المعارضة في الإقليم مثل ولادة حركة "التغيير"، و"التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة"، وحركة "الجيل الجديد" وغيرها من أحزاب المعارضة الكردية (التغيير والإسلاميين وتحالف برهم صالح)، أدى إلى مراجعة الحزبين الكبيرين لحساباتهما. والمعارضة الكردية تتهم الحزبين الكرديين الكبيرين بالتلاعب بالنتائج، عبر اختراق النظام الإلكتروني لفرز الأصوات، وهكذا لم يعد الأكراد يشكلون كتلة واحدة تتفاهم معها الحكومة المركزية، لكنهم في نهاية المطاف مضطرون للاصطفاف والتكتل في كيان واحد من أجل مواجهة الحكومة المركزية التي هي الأخرى لم تعد كتلة واحدة نتيجة الانقسامات في صفوفها.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو:
ـــ هل يتراجع ثقل الإقليم بغياب وجود ائتلاف كردستاني موحد؟
هناك تحالفات ما بعد الانتخابات لحماية مصالح الإقليم العليا، كما يصفها السياسيون، ولكنها ضعيفة نتيجة لهيمنة الحزبين الكرديين على المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومما لا شك فيه أن المعطيات تغيرت بعد الاستفتاء، ولم يعد للتحالف الكردي القوة اللازمة للضغط على الحكومة المركزية، وهذه الانقسامات طالت جميع المكونات، السنة والشيعة والكرد، لذلك لم يعد أي وزن للضغط الكردي كما كان في السابق، وخاصة بعد أفول بريق الدعم الأمريكي والغربي لهم، والضغوط التي تمارسها إيران وتركيا على الإقليم.
كان الأكراد فيما مضى لاعباً أساسياً في حسم منصب رئس الوزراء، لكنه لم يعد هذا اللاعب بتلك القوة. ويشعر الأكراد أن دورهم أصبح مهمّشاً في خضم التطورات الأخيرة، ومن ناحية أخرى فإن مقاعدهم في البرلمان قد انخفضت، ويعود ذلك إلى نسبة الأكراد في الانتخابات الأخيرة، وخاصة في مناطق ما تُسمى بـ"المتنازع" عليها في محافظات كركوك وديالى وصلاح الدين ونينوى، الأمر الذي زاد من تهميش أصواتهم. وفي هذا المجال، كلما زاد التقارب السني الشيعي أدى ذلك إلى تهميش الأكراد في مسألة اختيار منصب رئيس الوزراء، لذلك لن يكون للأكراد القوة الضاغطة في فرض شروطهم كما كانوا يفعلون في السنوات الماضية، وفي الوقت نفسه، لا يريد السياسيون الشيعة والسنّة خسارة الصوت الكردي في البرلمان لأنهم يستكملون بهم الكتلة الأكبر.
هذه الشراكة التاريخية بين الأكراد والحكومة المركزية ولّى عهدها، مهما تكن تصريحات المسؤولين الأكراد، وعلى رأسهم مسعود البرزاني بأنه يركز على أولولية الشراكة الحقيقية، إلا أنه يبحث عن ضمانات دولية وإقليمية تعزز دوره في الإقليم، وعلى الرغم من تنحيه عن رئاسة الإقليم فإنه يبقى الحاكم المُطلق بما يتمتع به من قوة عشائرية ومالية كبيرة.
إن التغييرات التي طرأت على الواقع السياسي جعل الأكراد يتسابقون في زيارة بغداد، من أجل التفاهم مع الفائزين أو المحتملين لقيادة الكتلة الأكبر، لتشكيل الحكومة المقبلة، ويبقى الدور فاعلاً للأكراد، حسب نتائج الانتخابات، مسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني (28) مقعداً، ويشكل ثقلاً لأي كتلة مرشحة لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة، لذا عليه أن يتفاهم مع ثلاث كتل، كل منها تدعي أنها هي الكتلة الأكبر، كتلة "سائرون" (54 مقعداً) بزعامة مقتدى الصدر، وكتلة "الفتح" (74 مقعداً) بزعامة هادي العامري، وائتلاف دولة القانون (25 مقعداً) بزعامة نوري المالكي. ولا يزال الأكراد يعملون بصمت وحذر مع الكتل الكبيرة، واضعين نصب أعينهم مصالحهم أولاً.
لا بد من ذكر أن استفتاء الاستقلال ظل حاجزاً نفسياً في التواصل بين الأكراد وبين الكتل الكبيرة، كما هو الحال بين الحزبين الكرديين، وما شاب علاقتهما من جروج وكسور لا تندمل بسرعة، لكن الحكومة المركزية تسعى إلى توحيد الأكراد في تحالف جديد، تصّب نتائجه في صالحها. كان الأكراد في السابق يستخدمون ورقة الانسحاب من العملية السياسية، إلا أنهم لا ينطقون بها في الوقت الحالي لأن كفة الميزان ليست في صالحهم.
يبقى الأمر الأكثر أهمية أمام الحزبين الكرديين الكبيرين هو العقبات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الساخنة، من ملف النفط والغاز مروراً بملف المناطق المتنازع عليها وصولاً إلى رواتب البيشمركة وحصة الإقليم ووضع محافظة كركوك، وكلها قنابل موقوتة قد تنفجر في أية لحظة، وحتى بغداد عاجزة عن تقديم الحلول لها.
ويبقى وجود الأكراد في المعادلة السياسية العراقية قائما على المحاصصة الطائفية في اقتسام السلطة مع القوى الشيعية والسنية على الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية من حصة الأكراد، ورئاسة الوزراء من حصة الشيعة، ورئاسة البرلمان من حصة السنة! إلا أن موقعهم في المعادلة الداخلية العراقية قد تزعزع كثيراً بسبب الأزمة الاقتصادية التي تخنق إقليمهم.
أما من الناحية الإقليمية، فتبقى إيران لاعبا أساسياً في حسم تشكيل الحكومة العراقية، وهي تسعى إلى استمالة الأكراد لتجميع كتلة برلمانية تستطيع تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، من خلال التحالف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والكتل الأخرى، التي لم تتبين معالمها حتى الآن، فالتنافس السياسي والانشقاقات والانسحابات من الكتل الكبرى المتنافسة لا تزال قائمة، ما زال موقف الكرد غامضاً، أو بانتظار تقديم العرض المغري.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة