«خوارزميات الحنين».. الذكاء الاصطناعي يمنح أرامل الجنود الروس حياة ثانية

في روسيا التي تتقاطع فيها الذاكرة بالحرب، والموت بالتكنولوجيا، وُلد شكل جديد من الحداد، فبفضل الذكاء الاصطناعي، بات بإمكان أرامل الحرب وأمهات الجنود رؤية من فقدنهم مجددًا — لا على شاشات الذاكرة، بل في مقاطع رقمية تنبض بالحركة والصوت والعاطفة.
وجوهٌ تعود من العدم لتبتسم، لتُلوّح، لتقول كلمات وداع لم تُقَل يومًا، في مشهدٍ تتداخل فيه الطمأنينة مع الرعب، والحنين مع الصدمة.
لكن ما يبدو لحظة عزاءٍ عابرة، يكشف عن ظاهرة أعمق بكثير: «إحياءٌ رقمي» يحوّل الفقد إلى تفاعل، ويمنح الموتى حياة ثانية عبر الأكواد والخوارزميات.
فماذا نعرف عن تلك التجربة؟
تقول صحيفة واشنطن بوست، إن الذكاء الاصطناعي يستخدم في روسيا، لمنح الموتى حياة ثانية مُرعبة، مشيرة إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي تزخر بمقاطع فيديو قصيرة لأقارب يودعون أبناءهم وأزواجهم وآبائهم المتوفين، الذين يعودون إلى الحياة لنحو ستين ثانية - عيونٌ تومض، وشفاهٌ تتحرك، وأذرعٌ متشابكة في عناقٍ لم يحدث قط.
واكتسبت ظاهرة «الإحياء الرقمي» رواجًا واسعًا في أوساط الإنترنت الناطقة باللغة الإنجليزية هذا الصيف، مما أثار جدلًا حول الحداد في العصر الرقمي.
لكن في روسيا، تحمل هذه الممارسة طابعًا أكثر قتامة، إذ تحظى بشعبية خاصة بين زوجات وأمهات الجنود الذين قُتلوا خلال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، التي بدأت قبل أكثر من ثلاث سنوات.
وقد أثارت مقاطع الفيديو انتقادات شديدة بين الأوكرانيين على وسائل التواصل الاجتماعي من جانب أولئك الذين يرون في تصوير الجنود الروس وهم يصعدون إلى السماء تمجيدًا للحرب ذاتها التي أودت بحياتهم وحياة العديد من الأوكرانيين.
مقابل حوالي 30 دولارًا، يمكن للأقارب المفجوعين إرسال صورة لأحبائهم إلى محرر على بوت «تليغرام» أو صفحة على فكونتاكتي، النسخة الروسية من فيسبوك، والحصول على مقطع فيديو قصير متحرك. ومقابل 30 دولارًا أخرى، يمكن للموتى التحدث مجددًا من خلال محاكاة صوتية مُعدّلة من تسجيلات قديمة، لتلاوة كلمات وداع مكتوبة.
بالنسبة إلى يلينا كيرغيزوفا، أرملة الضابط في الفيديو، كان الفيديو المُعدّ بتقنية الذكاء الاصطناعي بمثابة خاتم، ففي نعيٍ كتبته مُرفقًا بالمقطع، أوضحت أن جثته لم تُعاد إلى عائلتها قط - وهي مشكلةٌ لطالما عانى منها الجيش الروسي.
اللقاء الأخير
بدأت آنا كورابليفا، مؤسسة صفحة «اللقاء الأخير» على موقع فكونتاكتي، والتي حققت انتشارًا واسعًا في روسيا، باختبار الذكاء الاصطناعي قبل عام تقريبًا. في البداية، أنشأت مقاطع فيديو لأشخاص مُدمجين في صور طفولتهم ليبدو وكأنهم يلتقون ويحتضنون أنفسهم في شبابهم.
في الربيع، تلقت رسالة من امرأة طلبت منها إنشاء فيديو متحرك لها وهي تعانق شقيقها الذي قُتل في الحرب. فعلت كورابليفا ذلك مجانًا مقابل إذن بنشره على صفحتها. في غضون أسبوعين، انتشر الفيديو على نطاق واسع، وبدأت الطلبات تتدفق بالمئات، بما يصل إلى 500 طلب يوميًا.
في مايو/أيار الماضي، أنشأت صفحة «الاجتماع النهائي» وتواصل العمل على الطلبات التي تلقتها ذلك الشهر، بينما يتعين على الآخرين التسجيل في قائمة الانتظار. وصفت المشروع بأنه «علاج» يساعد الناس على التعامل مع الحزن.
وقالت إن إنتاج فيديو واحد يستغرق حوالي يومين، حيث تُجري مقابلات مع الأشخاص وتسعى لتحسين جودة الصور المُرسلة، التي غالبًا ما تكون ناقصة. وأضافت كورابليفا أن المشروع مُرهق، نظرًا للقصص التي تسمعها من الأشخاص الذين يطلبون الفيديوهات، ورسائل الكراهية التي قالت إنها تتلقاها على صفحاتها.
كورابليفا تضيف: «عادةً ما لا يُقدّر الناس ما لديهم في الحياة بما يكفي، فهم لا يُعبّرون عن حبهم لبعضهم البعض بما يكفي، ولا يُعانقون بعضهم البعض بما يكفي. بناءً على التعليقات التي أتلقاها، يشعرون بالراحة عندما يشاهدون الفيديو، ويتحدثون مرة أخرى. تلقيتُ العديد من الطلبات من نساء قلن إنني لم أُوفّق قبل رحيل أزواجهن، أو أنهن تشاجرن ثم تُوفي».
وتتبع معظم المقاطع نمطًا مشابهًا - جندي يعانق زوجته أو والديه قبل الذهاب إلى الجنة، على أنغام أغنية شعبية - ولكن تقدم مشاريع مختلفة إضافات، مثل إضافة أجنحة الملاك أو تحويل المتوفى إلى طيور بيضاء تطير بعيدًا.
وفي حين أن الغالبية العظمى من الطلبات تأتي من أمهات وزوجات الجنود، إلا أن هذه الخدمات لا تقتصر على الجنود القتلى. فقد استخدمتها بعض العائلات لتوديع حيواناتهم الأليفة العزيزة أو آبائهم المتوفين.
فيديوهات القيامة
في مقطع فيديو انتشر على «إنستغرام» وحصد 13 مليون مشاهدة، استخدمت مؤثرة روسية صورًا بالأبيض والأسود من شباب جدتها البالغة من العمر 86 عامًا لإنشاء فيلم قصير يعيد عائلتها المفقودة منذ فترة طويلة إلى الحياة باستخدام روبوت «تليغرام» مدفوع الأجر يعمل على العديد من نماذج الذكاء الاصطناعي الغربية، بما في ذلك GPT-5 وClaude وGoogle Gemini وPerplexity.
كما هو الحال مع الذكاء الاصطناعي نفسه، أثارت «فيديوهات القيامة» جدلاً واسعاً. فعلى منصات التواصل الاجتماعي الروسية، وجدها البعض مُقلقة ومُخيفة، بينما ردّ آخرون بأنها تُشعر بالراحة، مُشبّهين إياها بجلسات تحضير الأرواح أو الصلوات.
ولقد استخدم الناس منذ فترة طويلة أدوات مثل التسجيلات الصوتية والفيديو للحفاظ على ذكرى المتوفى، لذلك ترى كورابليفا أن استخدام الذكاء الاصطناعي هو مجرد خطوة أخرى في نفس الاتجاه.
أعتقد أن الذكاء الاصطناعي أداة فعّالة، ومن المهم استخدامه بمسؤولية ولصالح الجميع، تقول، مضيفة: «أعلم أن هناك آراءً كثيرة. تلقيتُ الكثير من الإساءات والشتائم في رسائلي الخاصة... لكنني أعتقد أنه إذا كانت هذه الفيديوهات تُفيد أحدًا، فهي تستحق النشر».
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjEg جزيرة ام اند امز