آلاف السوريين اللاجئين في أوروبا تحدثوا عبر موقع "فيسبوك" عن تجربة لجوئهم السابق في تركيا واكتشافهم كذبة "المهاجرون والأنصار".
بسماحه للاجئين السوريين بالتدفق إلى الشواطئ والحدود البرية مع أوروبا طلباً للجوء، يكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أسقط آخر وريقات التوت التي ستر بها عورته طوال سنين، ويكون قد هدّم بيديه آخر "قلاع الإنسانية والإخوة الإسلامية والمهاجرين والأنصار"، التي تحصن بها طيلة السنوات التسع الماضية ليعود أدراجه في مكانه الحقيقي "القلعة البراجماتية".
والاكتظاظ باللاجئين السوريين الراغبين بالهجرة إلى أوروبا الذي تشهده الحدود اليونانية والبلغارية مع تركيا، يؤكد حقيقة ساطعة هي أن السوري يقيم في تركيا مجبراً، وهي بالنسبة إليه ليست أكثر من مقر أو ممر إجباري بسبب ظروف الحرب في بلاده، وهرباً من بطش طاله من جميع الاتجاهات، وبعدما تحول إلى عشب غض تحت أقدام فيلة تتصارع بكامل أوزانها فوق أراضي بلاده.
أوروبا من ناحيتها من الصعب أن تسمح لألوف اللاجئين من الوصول إلى أراضيها وخاصة بعد صعود التيارات اليمينية فيها، لذلك ستعيد حساباتها جملة وتفصيلا في تعاملاتها مع تركيا، بعد أن نسف الإجراء التركي الأخير اتفاق عام 2016
منصات وسائل التواصل الاجتماعي شهدت خلال الأيام الماضية ردود فعل عنيفة ضد القرار التركي، بعدما تأكد لمن كان لا يزال مسحوراً بمقولة أردوغان "المهاجرون والأنصار"، أن السلطان كان يتخذ منهم ورقة للابتزاز الخارجي، ومن مآسي تشردهم وسيلة لتحقيق طموحاته الشخصية، وهم ليسوا بالنسبة إليه أكثر من بيادق مُهانة على رقعة شطرنج تملؤها القلاع والفيلة والملوك.
ها هو خالد الخوجة الرئيس السابق للائتلاف السوري المعارض، والمتمتع بالجنسية التركية قبل الأحداث السورية بوقت طويل باسمه التركي "ألبتكين هوجا أوغلو" وأحد مؤسسي حزب أحمد داوود أوغلو المنشق عن أردوغان، يغرد على تويتر قائلاً: "تحول اللاجئ السوري في خطاب الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) من ضيف ومهاجر إلى سلعة جاهزة للتصدير تجاه أوروبا، ما يعكس أزمة أخلاقية عميقة داخله ويشكل انحيازاً عن القيم الإنسانية والإسلامية التي حكمت تعامل تركيا مع المهاجرين عبر التاريخ" (؟!).
كما تحدثّ آلاف السوريين اللاجئين في أوروبا عبر موقع "فيسبوك" عن تجربة لجوئهم السابق في تركيا واكتشافهم كذبة "المهاجرون والأنصار". وحثوا نظراءهم في تركيا على تحمل كل المشقات للوصول إلى أوروبا، ومنها سيقفون على الحقائق بوضوح. وذهب بعضهم أبعد من ذلك بإرشاد من يود الهرب من تركيا إلى الطرق الأسهل والأقل مشقة وأخطارا.
لا شك في أن القرار التركي بفتح منافذ البلاد على اتساعها أمام لجوء السوريين إلى أوروبا وتوجيه أوامر واضحة لأجهزة الأمن بترك الحبل على الغارب لمن يريد ذلك من دون أيِّة قيود، جاء رداً على الفتور الأوروبي وتردد حلف الناتو في دعم أردوغان الذي استجداه مرات ومرات لمساندته في كباشه مع الروس في حرب استرداد إدلب، وبعد الضربة العسكرية الموجعة التي تلقاها جيشه وأدت إلى مقتل وجرح العشرات، ما أثار ردود فعل صادمة في الشارع التركي أخرجته في مسيرات غاضبة.. تطورات أثارت مخاوف كبيرة من حصول عمليات انتقام ضد اللاجئين السوريين، ودفعت ببعض الولاة في المناطق التركية إلى إصدار أوامر لتقييد حركة السوريين فيها وفرض ما يشبه منع التجوال عليهم بذريعة الخوف من ردات الفعل العنيفة المتوقعة أن تطالهم.
أوروبا من ناحيتها من الصعب أن تسمح لألوف اللاجئين من الوصول إلى أراضيها وخاصة بعد صعود التيارات اليمينية فيها، لذلك ستعيد حساباتها جملة وتفصيلاً في تعاملاتها مع تركيا، بعد أن نسف الإجراء التركي الأخير اتفاق عام 2016 بين الجانبين والمتعلق بملف اللاجئين، لذلك سيبدو مشهد السوريين الفارين إليها والعالقين على الحدود بلا مأوى أو مساعدات طعنة غادرة في ضمير الإنسانية.
أما الولايات المتحدة وحلف الناتو عموماً، فمن المؤكد أنهم لا يأتمرون بأمر "الحليف البهلوان" أردوغان، إن دعاهم جاؤوا وإن أعادهم عادوا، وأكثر ما يمكن أن يقدموه إليه دعم سياسي وإعلامي لا يُحدث فرقاً جوهرياً في حرب إرادات لن تضع أوزارها نهائياً إلا بصيغة غالب ومغلوب. لذلك يبدو أردوغان الذي صعد إلى أعلى الشجرة بتصريحاته، بحاجة مصيرية إلى عملية نزول آمن وهو ينتظر على حرّ الجمر لقاءه المزمع يوم 5 أو 6 من مارس/آذار الجاري بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المتشدد بقراره دعم الجيش السوري لاستعادة إدلب، علّه يأخذ بيديه للخروج من المأزق الذي جرّ نفسه إليه مدفوعاً بغروره وسوء حساباته.
المأزق "الأردوغاني" يبدو بأوضح تجلياته داخلياً، حيث بدأ الحديث علناً عن مدى حاجة تركيا إلى حروب وصراعات كلفتها الكثير ولم تجر عليها سوى المآسي على الصعد كافة؛ الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، في الوقت الذي كان من المأمول منها، بما تمثله من ثقل جيوسياسي، أن تتصف سياساتها بالحكمة بدلاً من تعكير الأجواء بنفض الغبار عن مشروعات وإمبراطوريات أكل الدهر عليها وشرب.
وبدأ طيف واسع من الأتراك يتناول بالكثير من الاستخفاف والازدراء قول أردوغان الشهير في عام 2014: "لا يحق لنا أن نقول لا دخل لنا بالبوسنة والهرسك أو بمصر أو فلسطين أو سوريا والعراق لأن تركيا جاثمة على ميراث الدولة العثمانية والسلجوقية ولذلك لا يحق لنا أن نقول إننا لا نكترث للدول حولنا. علينا أن نجعل همّ هذه الدول همّنا طوال الوقت. هذا واجب تركيا الجديدة. هذا واجبنا باعتبارنا دولة كبرى".
ويردون عليه: "نعم يحق لنا كشعب يتطلع للعيش بسلام أن نقول لا دخل لنا بالدول من حولنا إن كان ذلك سيؤذينا ويلحق بنا الضرر، ويحق لنا أن نفكر بتركيا وشعبها ورخائها وتحررها من قبضة الإخوان المسلمين ومشاريعهم التدميرية في كل مكان حلّوا فيه".
أما مأزق أردوغان الثاني داخلياً سيبدأ بالظهور خلال الفترة القريبة المقبلة، وسيتمثل في الإجابة عن تساؤل مدى قدرة الجيش التركي على القبول بأن يُلحق به مغامر يعيش في قلاع السلاطين المهدمة، الأذى والهزائم والعار؟.
لتبقى أن الصور والمشاهد المؤلمة التي تنقلها شبكات التلفزة العالمية للسوريين الهاربين إلى أوروبا من تركيا وهم عالقون على البوابات تتقاذفهم أعاصير لعبة أمم لا ترحم، ربما هي أخف وطأة بكثير من آلام المصير الذي كان ينتظرهم وينتظر أبناءهم وأحفادهم فيما لو تحققت فيهم مشاريع أردوغان واستطاع تحويلهم إلى مرتزقة في "جيش إنكشاري" جديد يكزن فيه رأس حربة مغامراته وأحلامه السلطانية.. وهي أقل كلفة عليهم وعلى أبنائهم وأحفادهم من كمِّ العدوات الذي سيلاقونه من أشقائهم العرب، ومن غير العرب.
والصور والمشاهد المؤلمة التي تنقلها وسائل الإعلام للهاربين السوريين من الأطفال والنساء والشيوخ عن الأسوار الأوروبية العالية وما سيروونه عن عذابات وآلام هروبهم الكبير، ستكون مسماراً آخر يُدّق في نعش مشاريع الإخوان المسلمين وما تفرع عنهم من حركات سياسية وعسكرية تنكبت ثوراتهم وحطمت كل آمالهم بأوطان كريمة ينعمون فيها بما يستحقون من حرية وكرامة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة