في يوم من الأيام، كنت مع أحد القادة في إحدى المؤسسات المالية البارزة، وأثناء توجيهه للفريق، وجه نصيحة ذهبية: "لا تحرق بترولك في المكان الخطأ".
كانت هذه العبارة بمثابة الشرارة التي ألهمتني لكتابة هذا المقال، بهدف تقديم رؤية واقعية يستفيد منها كل من يتولى القيادة ولكل فرد أو موظف يسعى إلى استثمار طاقته بأفضل صورة ممكنة.
في مجال الأعمال المتسارع، لم يعد التحدي الأكبر هو رأس المال أو التكنولوجيا، بل القدرة على إدارة أثمن ما تملكه المؤسسات وهو الطاقة البشرية. هذه الطاقة تشبه الوقود في خزان السيارة، إما أن تُستثمر بعقل وحكمة فتوصلنا إلى الوجهة المطلوبة، أو تُهدر بلا حساب فنجد أنفسنا عالقين بلا تقدم.
القائد الناجح هو من يتعامل مع طاقات فريقه كما يتعامل السائق الماهر مع وقوده، فلا يضيع الطريق في التفافات غير ضرورية، ولا يستهلك الجهد في مهام بلا جدوى. وكما قال ستيفن كوفي: "المفتاح ليس في إنفاق الوقت، بل في استثماره".
يؤكد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات في مقولته: "العمل بروح الفريق سر نجاح أي مؤسسة"، بأن القائد والأعضاء هم فريق لا يمكن لأحدهما أن يحقق النجاح بعيدا عن الآخر.
كما يقول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، في كتابه (علمتني الحياة): "صناعة الفريق هي الاستثمار الأعظم الذي يمكن أن تقدمه لوطنك ومؤسستك، فالفريق القوي لا يحافظ على النجاح فحسب بل يخلق دورة مستمرة من النمو".
هذان التوجهان يؤكدان أن القيادة الناجحة ليست مجرد إصدار قرارات، بل فن استثمار الطاقة البشرية بحكمة، وبناء فرق قادرة على الابتكار وتحمل المسؤولية، بحيث تتحول كل طاقة مهدورة إلى دافع للنمو والتقدم المستدام.
المؤسسات الناشئة تمثل المثال الأوضح على هذه الحقيقة، فهي مثل سائق ينطلق في رحلة طويلة وخزان وقوده نصف ممتلئ، ولا يملك رفاهية التجريب العشوائي. الأولويات هنا تصبح علامات الطريق التي تحدد المسار، وأي جهد خارجها هو هدر للطاقة، أو كما نقول باللهجة الخليجية: "تلف ودور وترجع من حيث ما بديت".
القائد الحكيم يعرف أن أذنه هي جهاز الإنذار المبكر، فالاستماع للفريق ليس ترفاً بل وسيلة حماية أساسية. فتجاهل أصوات الموظفين يشبه تجاهل الأضواء التحذيرية في لوحة القيادة، والعاقبة معروفة مسبقاً، حيث تؤكد الأبحاث في علم النفس التنظيمي أن الموظف الذي يشعر أن صوته مسموع يضاعف التزامه ويزيد من إبداعه، ولعل دانيال غولمان لخّص ذلك بقوله: "القيادة الحقيقية لا تكمن في إصدار الأوامر، بل في القدرة على إيقاظ أفضل ما في الآخرين".
والتواصل بدوره هو الشريان الذي يضخ الحياة في جسد المؤسسة. الرؤية المستقبلية لا تكفي إن لم تقترن بالحضور اليومي في التفاصيل مثل شرح القرارات، ومشاركة المعلومة بشفافية، وإعادة ضبط الإيقاع عند الحاجة. حين يشعر كل موظف أنه شريك حقيقي في صنع الاتجاه، تُوجَّه طاقاته نحو الأهداف بثقة ووضوح بدلاً من أن تُستنزف في الشكوك والارتباك.
القيادة أيضاً فن التوازن بين السرعة والتمهّل. هناك أوقات تستدعي الحذر لترسيخ الأسس، وأخرى تفرض التسارع لاقتناص الفرص. السرعة وحدها قد تستهلك الوقود قبل بلوغ الغاية، والبطء وحده قد يفوّت الطريق. الجمع بين الطموح والواقعية هو ما يحفظ استمرارية المسيرة. وقد لخّص ويليام جيمس هذا المبدأ بقوله: "القدرة على التركيز على هدف واحد هو جوهر العبقرية". فالإبداع لا يعني امتلاك طاقة ضخمة، بل القدرة على توجيهها في المسار الصحيح. وهذه هي الفلسفة التي تصنع الفرق بين مؤسسة تحقق أهدافها بكفاءة رغم محدودية مواردها، وبين أخرى تُبدد إمكانات واسعة بلا أثر ملموس.
الرسالة الجوهرية التي أريد أن تصل إلى كل قائد وفريق عمل من خلال هذا المقال هي: "أن النجاح لا يُقاس بحجم الوقود المتاح، بل بمهارة القيادة في استثماره على الطريق الصحيح. ولذلك، المؤسسات التي تتقن فن توجيه طاقات فرقها بحكمة وتقلل الهدر إلى أدنى حد ممكن هي التي تصل أبعد مما يتخيل منافسوها"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة