الحقيقة هي أن كل الأصابع تشير إلى حزب الله في هذه الجريمة، فالميناء يقع في إطار سيطرته الجغرافية، وهو يبسط نفوذه للعسكري،
لا ينبغي أن يكون الانفجار في لبنان مفاجأة لأحد؛ فالبلد الكريم يعيش وسط مجموعة من التقاطعات والتناقضات المتفجرة بطبيعتها وتنتظر اللحظة التي ينفجر فيه العنف بشكل أو آخر. وإذا كان الجنرال شارل ديجول مؤسس ورئيس الجمهورية الخامسة الفرنسية اعتاد على أنه كلما جرى نقاش حول أمر أن يطلب "الخريطة" التي توضح الجوانب "الجيوسياسية" لكل الأمور مهما بدت غامضة أو مستعصية على الفهم، فإن لبنان ليس استثناءً من هذه القاعدة. فالخريطة توضح بكل جلاء أن لبنان هو جار رئيسي لسوريا التي تعيش حالة "انفجارية" على مدى عقد كامل لم تنتهي فيها الحرب الأهلية، ولا حرب أخرى ضد ما سمي بدولة الخلافة أو بعضا من بقاياها، ولا حرب ثالثة في الشكل بين تركيا والأكراد السوريين ولكنها في المضمون حرب تريد فيها تركيا أن تستعيد فيها ولاية سوريا بالشكل أو بالجوهر، أو حتى أن تكون ورقة ضغط تلاعب بها تركيا أوروبا أو روسيا أو الولايات المتحدة أو إيران أو كلهم جميعا.
التقاطع الأهم من ذلك كله يوجد حيث تتماس إيران وإسرائيل وروسيا وحتى الحكومة السوري أيضا في مصالح تتوافق أو تتعارض أو تتناقض أو تتصارع حسب حسابات كل صباح. وفي نقطة وسط من ذلك كله يوجد ما هو لا دولة ولا حزب كما هو حال أحزاب أخرى، وإنما هو "حزب الله" والذي هو وكيل عن إيران، والمدعي الحصول على توكيل غير شرعي بتمثيل لبنان والأمة العربية والإسلامية لمقاومة إسرائيل. واستنادا إلى هذا التوكيل الوهمي غير الشرعي وغير المقبول لا عالميا ولا إقليميا، عزم الحزب طوال العقود الثلاث الماضية منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة على الحصول على لبنان كإقطاعية خاصة يحكمها باختراع "الثلث المعطل" في مجلس الوزراء، أو بالإرهاب السياسي وبالاغتيال الفعلي للشخصيات السياسية اللبنانية، وبالقوة المسلحة في كل الأحوال. وسط هذه التشكيلة الكبيرة من البارود القابل للانفجار، وفي فصل الصيف وارتفاع حرارته، فإن انفجارا في لبنان لا ينبغي له أن يكون مفاجأة لأحد، وفي الواقع أن أحدا من المراقبين لم يختلف على إمكانية وقوع صدام إيراني إسرائيلي، أو مواجهة بين حزب الله وإسرائيل، وكان السؤال دائما متي يحدث ذلك؟
ولكن المفاجأة ليست بحدوث الانفجار في مرفأ بيروت، وإنما كيف حدث؟ وقت كتابة هذا المقال كانت المعلومات لا تزال قليلة عن الانفجار المدوي والهائل الذي جرى في ميناء بيروت في عصر الثلاثاء الرابع من أغسطس والذي شابه الانفجار "المشرومي" للقنابل الذرية. كان معلوما أن هناك عشرات القتلى، وآلاف الجرحى، ولكن أيا منهم لم يكن من عناصر مقاتلة، وجميعهم كانوا من المدنيين الذين هزهم الانفجار، وتهدمت عليهم مبان، وتطايرت شظايا وألواح الزجاج إلى أجسادهم، وأصابهم "التفريغ" الذي تسببه القنابل فيمزق القلب والرئة. وما ذكر وقتها كان أن انفجارا كبيرا حدث في مخزن لنترات الأمونيوم داخل الميناء، وجرى تخزينها في عام ٢٠١٤، وهناك أقوال إنها كانت هكذا منذ ٢٠١٢. وليس معلوما أنه من وظائف المرافئ أن تخزن المواد القابلة للانفجار، وإذا مرت بها فإنها تسارع بتسليمها فورا إلى من يهمه الأمر، وعلى الأقل فإنها تبلغ الدولة – اللبنانية في هذه الحالة – حتى يمكن توفير التأمين اللازم لها فلا تقع في يد من يريد بالبلاد سوءا أو حتى تتعرض لكارثة الانفجار في يوم ما.
الحقيقة هي أن كل الأصابع تشير إلى حزب الله في هذه الجريمة، فالميناء يقع في إطار سيطرته الجغرافية، وهو يبسط نفوذه للعسكري في كل أجزاء لبنان، وهو الذي يعيش في حالة عصبية منذ "الحراك اللبناني" الأخير الذي جعل إنقاذ لبنان واجبا ليس فقط من الفساد والأوضاع الاقتصادية الصعبة وإنما أكثر من ذلك النفوذ الإيراني وممثله حزب الله. إيران وحزب الله جعلا لبنان متورطا في الحرب الأهلية السورية، وبالتبعية داخلا في مواجهات مع روسيا، وفي انتظار حرب مع إسرائيل تبدأ عادة بتدمير البنية التحتية اللبنانية ولا تنتهي إلا بعد أن تفقد الدولة جزءا من سيادتها. اللحظات الأخيرة قبل الانفجار شهدت استقالة وزير الخارجية اللبناني "نصيف حتى" احتجاجا على أن الوزارة اللبنانية لا تأخذ الإصلاح المطلوب بالجدية التي يستحقها؛ ولم يكن ذلك واقعا إلا نتيجة الضغوط الكبيرة التي أوقعها حزب الله بالحكومة وجعلها عمليا عاجزة عن العمل. هل معنى ذلك أن حزب الله هو الذي قام بتفجير مخازنه في الميناء؟، أمر لا يمكن الحكم به أو عليه في هذه المرحلة من المعلومات المحدودة والقليلة، ولكن المؤكد أن الحزب مسؤول عن وجود هذا المخزون القابل للتفجير، وأنه فشل في تأمينه، وأنه يستفيد من الرعب والفزع والخسارة المادية التي سوف تلحق باللبنانيين نتيجة الحادث، والتي تضاف إلى قائمة طويلة من الخوف والفزع من عودة الحرب الأهلية، والاتجاه نحو الإفلاس الاقتصادي الكامل. وفي الحقيقة أن اللبنانيين يعرفون أنه لا توجد دولة أو منظمة دولية يمكنها مساعدة لبنان مساعدة حقيقة طالما أن الدولة اللبنانية ليس لها القول الفصل، وأن هناك تنظيما مسلحا هو حزب الله يشكل دولة داخل الدولة.
لقد كان انفجار مرفأ لبنان في بيروت حادثا تعيسا في بلد كثرت فيه التعاسة خلال السنوات الأخيرة، ولكن الواقع "الجيوسياسي" وما يفعله حزب الله في لبنان وسوريا أيضا، يفرض التوقع أن أكثر الأيام تعاسة لا تزال في الطريق إلي الدولة الشقيقة، التي تعاني من حزب فقد كل علاقة له بالدولة اللبنانية وتدار فيها كل أموره من طهران. المعضلة الكبرى دائما هي أن حرائق لبنان لا تتوقف شراراتها هناك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة