مما لا شك فيه أن ثمة مصلحة مدركة عند قادة مشروع السلام الخليجي أن تكون لهذا المشروع نتائج خارج الحدود الوطنية للإمارات والبحرين.
بعد السلام الإماراتي - الإسرائيلي والبحريني - الإسرائيلي، يبدو لبنان الدولة الأكثر منطقية، من ناحية المصالح، للمضي قدماً في اتفاق سلام.
لا يمنعه عن ذلك إلا احتلال القرار السيادي اللبناني من مجموعة مؤدلجة لا حياة لها خارج دوام حال العداء بين الدولتين، ولو أنها تنتحل انتحالاً صفة تحرير القدس وإنهاء إسرائيل!
ما المشكلة بين لبنان وإسرائيل؟
لا يقوى سياسي لبناني على تقديم إجابة عملية واضحة، سوى التهويل بملف التوطين الذي سأعود إليه بعد قليل. فحين سُئل رئيس الجمهورية ميشال عون بعد الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي، عن احتمالات السلام اللبناني - الإسرائيلي قدم جواباً عاماً عن "مشكلات" بين الدولتين ينبغي حلها قبل التفكير في السلام.
جوابه البارد ليس أمارة على ضعف وطنيته، أو انعدام حساسيته تجاه إسرائيل، ولا أود التذكير باللوبيات أثناء خوضه معركة عودته إلى لبنان.
مرد جوابه أن لا مشاكل فعلية بين إسرائيل ولبنان، من نوع المشاكل التي يعترف بها العالم في إطار العلاقات الدولية والقانون الدولي. فالاحتلال انتهى عام 2000، وكان يمكن أن ينتهي قبل ذلك بسنوات طويلة لو أن لبنان أحسن إدارة مصالحه خارج سطوة الأولويات السورية ولاحقاً الإيرانية. بل كان يمكن للاحتلال ألا يحصل لو استمر لبنان في تحييد نفسه عن الصراع المسلح مع إسرائيل، كما فعل عام 1967 بمناورة عبقرية من وزير الخارجية الراحل فؤاد بطرس وبراغماتية وطنية من الرئيس شارل حلو.
أما المؤدلجون، أكانوا جماعة اليسار القديم الذي أسهم في تدمير بيروت دفاعاً عن القدس، وأهدى بيروت لياسر عرفات بالجملة والمفرق، أو كانوا جماعة مليشيا حزب الله الإيرانية، فإجاباتهم عن تحديد المشكل بين لبنان وإسرائيل تتراوح بين الأيديولوجي والغيبي.
ستسمع من هؤلاء مفردة "الأطماع الإسرائيلية" وستسأل نفسك، ما جهاز قياس الطمع الذي بموجبه يمكن رصد ارتفاع أو انخفاض الأطماع ما يسهل على صانع القرار إما التصعيد أو التسوية؟
مفردة الأطماع هي مجرد ذريعة لتأبيد صراع تستفيد منه هذه المجموعات، عقائدياً لتوسيع حضورها وحضور من تنوب عنهم من قوى إقليمية، وعملياً بما يعود عليها من مكتسبات في الحظوة والنفوذ داخل وخارج النظام السياسي اللبناني.
مضحكة مبكية مفردة الأطماع، لا سيما الكلام البائد عن أطماع إسرائيل في مياه الليطاني، الذي أحيل إلى "مجرور للصرف الصحي" تحت أعين بلديات المقاومة لا سيما في البقاع. فالصحف اللبنانية تمتلئ منذ سنوات بتقارير مفصلة عن نسب تلوث مياه النهر المسرطنة وعدم صلاحيتها للشرب أو الري، إذ تتجاوز مستويات تلوثها ببعض أنواع البكتيريا ثمانين ضعف ما هو مسموح به في مياه الشفة والري.
أما الأطماع في حدود لبنان البحرية بسبب الغاز والنفط، فهي كأي أطماع "عادية" بين أي دولتين حدوديتين، ولهذه الأطماع علاجات بموجب القانون الدولي وعبر الشركات الخاصة صاحبة المصلحة في التنقيب والحفر والاستخراج، وبين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية عبر الأمم المتحدة أو الفرنسيين أو أي طرف ثالث. دعك عن أن المنطقة المختلف عليها بين لبنان وإسرائيل هي حصيلة خطأ تقني في الترسيم من قبل الجانب اللبناني!!
يبقى ملفان عمليان هما احتلال مزارع شبعا، التي تم "اكتشافها" بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، وملف توطين الفلسطينيين الذين لا يتجاوز عددهم 174 ألفاً، بحسب نتائج "التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينيّة في لبنان"، الذي أجرته "لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني" بالشراكة مع إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2017.
التمعن في نتائج إدارة معركة منع التوطين تصيبك بالرعب. فالهاجس الديموغرافي عند قطاع من المسيحيين تاريخياً دفع بالأحزاب المسيحية لخوض حروبٍ أفضت إلى تهجير المسيحيين بمئات الآلاف، وإحداث الخلل الديموغرافي الذي كان يخشى منه بل وتأبيده من خلال النزف النهائي الذي حصل في المجتمع المسيحي نحو كندا وأستراليا وأميركا وفرنسا وغيرها... ثم ورث قطاع من الشيعة الهاجس نفسه، وها هم يستكملون سياسة الهدم الذاتي للدولة والنظام والمقدرات والمؤسسات، بحيث بات الحديث عن النزوح اللبناني، لا سيما بعد انفجار بيروت، يوازي ويتفوق على النزوح الفلسطيني. ثم لماذا سيقبل الفلسطيني على جنسية يسعى أبناؤها أنفسهم للحصول على بديل عنها!!
أما مزارع شبعا فيمكن اختصار موضوعها بأنَّ وضعها السيادي غامض، بحسب العبارة التي استخدمها أمين عام الأمم المتحدة الأسبق كوفي أنان، الذي أشرف على تمام الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000. وأما الغموض فمرده أن سوريا تمسكت برفض تقديم أي وثائق تثبت لبنانية مزارع شبعا، التي بقيت تحت الإدارة السورية منذ استقلال سوريا وحتى حرب 1967، ومنعت دمشق بيروت بالقوة من تثبيت أي علامة من علامات السيادة عليها، كوجود مخفر للدرك أو نقطة جمركية حدودية.
في الواقع شكلت المزارع ذريعة لتأبيد بقاء الجيش السوري في لبنان بعد انسحاب إسرائيل وبدء المطالبات اللبنانية بانسحاب جيش الأسد في المقابل، عبر بيان شهير للمطارنة الموارنة في سبتمبر (أيلول) 2000.
ثم تحولت لذريعة لبقاء سلاح حزب الله والمتنفس شبه الوحيد لعمله المسلح ولو النادر، بعد القرار 1701، ونشر الجيش اللبناني على طول الحدود، وقوات اليونيفيل المعززة، خلافاً لإرادة حزب الله آنذاك!
المزارع التي لا تتجاوز مساحتها 24 كلم مربع، تحولت منذ ذلك الحين إلى عقدة مواصلات أمنية وعسكرية تختصر كثيراً من صراعات الجيوبوليتيك في المنطقة!
ولئن وضع أنان آلية للتثبت من هوية المزارع، وتمديد تطبيق القرار 425 عليها في حال ثبوت لبنانيتها، بما يعني انسحاب إسرائيل منها، وجب على اللبنانيين الاستفادة من زخم السلام الجديد في المنطقة والمطالبة بأن يدرج بند المزارع على جدول أعمال حكومات الإمارات والبحرين كثمن مقابل من أثمان السلام في المنطقة، تماماً كما كان تجميد ضم غور الأردن أحد الأثمان التي حققتها أبوظبي.
***
مما لا شك فيه أن ثمة مصلحة مدركة عند قادة مشروع السلام الخليجي أن تكون لهذا المشروع نتائج خارج الحدود الوطنية للإمارات والبحرين، بما يعزز ولادة عقل ووعي عربي جديد، يرى المشاكل ويرى حلولاً لها خارج عدة الشغل القديمة وخارج الحصرية الإيرانية المزيفة في موضوع التحرير واستعادة الأرض.
السلام ممكن خارج الأوهام. بل مطلوب الوصول إليه اليوم أفضل من وصول متأخر.
أما من يريد إخافة اللبنانيين بأن إسرائيل تريد تهديم لبنان، فليتوقف للحظة ويسأل أي حرب إسرائيلية وأي عتاد إسرائيلي بوسعه، خلال ثوانٍ، هدم بيروت كما هدمها تفجير المرفأ.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة