بلغة الواقع فإن الإمارات اتخذت القرار الأصعب في هذا الزمن القائم على العنف والتطرف والتخوين في مواجهة أحد أعقد القضايا العربية.
يترأس سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي وفد الدولة في مراسم توقيع معاهدة السلام بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل اليوم في العاصمة الأمريكية واشنطن، بحضور بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل.
إذا جاز لنا أن نصف هذا المشهد السياسي التاريخي فهو خطوة حضارية في طريقة البحث عن سبل وآليات عملية في إدارة القضية العربية المركزية والدفاع عنها بشكل عقلاني ومنطقي، بعد أن تمت الإساءة إليها وإلى عدالتها بفعل لغة العنتريات والأعمال الغاضبة التي لم تخدمها على مدى أكثر من سبعة عقود.
الإمارات هي الدولة العربية الثالثة التي توقع معاهدة سلام مع إسرائيل بعد مصر والأردن، إلا أن دخولها في هذا المشروع اليوم سيكون مختلفا في تقرير مصير قضية السلام في المنطقة، لأننا اعتدنا منها أن تكون عاملا مساعدا للعديد من الدول المترددة في اتخاذ خطوات تتسم بالجرأة والشجاعة، يدعم هذا التوقع أن هناك حديثا متكررا في العديد من الدوائر الثقافية العربية حول أهمية تغيير أساليب الدفاع عن قضايانا، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي لم تخدم سوى المتربصين بالعرب.
وإذا كانت مملكة البحرين قد اتخذت الخطوة الثانية بعد الإمارات وستوقع معاهدة السلام مع إسرائيل اليوم، فإن المزاج السياسي العربي يؤكد أن هناك دولا أخرى تستعد لإعلان الانضمام إلى "قطار السلام" الذي انطلق من الإمارات ولن يعود إلى الوراء.
بلغة الواقع فإن الإمارات اتخذت القرار الأصعب في هذا الزمن القائم على العنف والتطرف والتخوين في مواجهة أحد أعقد القضايا العربية، وقدمت بهذه المعاهدة صورة حضارية في طريقة إدارة الخلافات الدولية مع دولة تتوسع في الأرض العربية دون أن تجد من يوقفها غير "الصريخ العالي"، بل لو تم النظر إلى المعاهدة فهي أسلوب عقلاني لرفض استغلال الحق الفلسطيني، والعربي سواءً من إسرائيل أو من كل من يسيء للفلسطينيين منذ أن ظهر أن هناك من يتاجر بالقضية وبالشعب.
إن نهج السلام هو الطريق الحقيقي لاسترداد الحقوق العربية والأكثر تأثيراً، حيث تتحقق أدوات الضغط الدبلوماسي واستخدام لغة التفاوض، وأجزم أن أغلب السياسيين العرب ومن ينتقدون التحرك الإماراتي يدركون ذلك حتى وإن كابروا، لأن المسألة مرتبطة بمصالح شخصية أو انتظاراً لأن يركب أغلب الناس "هذا القطار"، ولكن ما نتمناه ألا يفوت أصحاب القضية والمعنيين بها هذا القطار لأن المنطقة يبدو أنها في طريقها نحو إعادة التشكيل بالكامل.
السلام هو أحد المشروعات العربية الكبيرة في المنطقة التي ينبغي أن يتبناها الكل ممن يعتقدون أنهم يخافون على مستقبلها، وبشكل أخص الدول التي تعاني من التدخلات الإيرانية والتركية لأنهما أكثر الدول المتنفعة ومعهما تيار الإسلام السياسي من استمرار عدم حل القضية، لكون أن أهدافهما التمدد في الدول العربية، وتشتيت الشعب الفلسطيني والعربي.
بمجرد أن يهدأ الوضع السياسي، ويتم تفريغ الشحنة من المعارضين، سيظهر بوضوح أن الخلاف يمكن أن يعالج بطرق سلمية كما حدث في جنوب أفريقيا وفي الهند أيام الاحتلال البريطاني بقيادة المهاتما غاندي، على اعتبار أن السيطرة على الغضب يكون بالرد العقلاني، وكل أساليبنا السابقة مع إسرائيل كان يطغى عليها الغضب والحماسة السياسية.
معاهدة السلام هي نوع من التفكير الإيجابي في ابتكار نهج جديد للدفاع عن الحقوق العربية وبطريقة يفهمها أغلب الناس في العالم ويتفق معها. شكلياً تبدو أنها خطوة بسيطة، لكنها تواجه كل المتطرفين من الذين يرفضون إعادة الحقوق العربية أو الذين تهدد مشاريعهم التخريبية.
الرفض السياسي الدائم لكل المبادرات الخيرة، والجمود الدبلوماسي دون محاولة للتحريك قد يساعد في تخفيف الغضب لوقت قصير، لكن على المدى البعيد فإن الخسائر التي يمكن أن تلحق بقضايا العرب الاستراتيجية كبيرة، كما أن الادعاء بمفاهيم قيمية (مثل المقاومة والتصدي) ولكن على أرض الواقع لا تستخدم من قبل المنادين، بها لن يضمن سوى تكرار الإساءة للقضية الفلسطينية وإضعاف الموقف العربي الحقيقي.
المشكلة الحقيقية التي تواجهها القضية الفلسطينية مرتبطة بمدى وعي قادته بالتطورات والأحداث التي تتم على الأرض وتغيير طريقة التفكير فيها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة