المؤكد أن الخطوة الإماراتية لم تتحدث باسم الفلسطينيين، وأن موقفها من القضية لم يختلف عما كان سابقا عليها.
يوم الخميس الثاني من سبتمبر الجاري عقد الرئيس الفلسطيني محمود عباس اجتماعا لم يحدث منذ وقت طويل مع الفصائل الفلسطينية المختلفة، في محاولة لتشكيل جبهة موحدة بشأن معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية. وعُقد الاجتماع عبر الفيديو كونفرنس بين رام الله في الضفة الغربية وبيروت، وحضره زعيم حماس إسماعيل هنية والأمين العام للجهاد الإسلامي زياد النخالة وحزمة من زعماء الجبهات الشعبية والديموقراطية وغيرها أسماء. وكما يحدث مع المنظمات الفلسطينية عادة في مثل هذه الحالة، وكما هو متوقع فإن المجتمعين عبروا جميعا عن الغضب مما جرى بأكثر الكلمات الحماسية الممكنة، وتناوبوا إدانة الاتفاق بانفعالات واضحة، وفي نفس الوقت "الإعلان عن الرفض لقيام دول عربية أخرى بتمثيل الفلسطينيين"، و"مناشدة الأشقاء العرب باتخاذ مواقف مساندة للموقف الفلسطيني القائم على حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية" وتكرر الأمر بحذافيره عندما أعلنت البحرين عن اتفاقها مع إسرائيل. مثل هذه المواقف لم تكن جديدة على المصريين فلقد سبقت التجربة المصرية تلك الإماراتية والبحرينية بأربعة عقود، حينما حرقت مع الأعلام صورة الرئيس الشهيد أنور السادات، وزاد عليها طرد مصر من الجامعة العربية، ونقل الجامعة العربية ذاتها إلى تونس، وكذلك عزل مصر في اجتماعات دول المؤتمر الإسلامي، والسعي إلى إخراجها من منظمة الوحدة الأفريقية ومؤتمرات عدم الانحياز. ولحسن الحظ أن العرب نضجوا هذه المرة ولم يعد الحال بمثل هذه الحدة السابقة في العالم العربي إزاء مواقف دول عربية من إسرائيل، وبات السؤال الذائع عما إذا كانت هناك دول عربية أخرى سوف تلحق بالموقف الإماراتي، أو أن بعضا منها سوف ينتظر نتائج الانتخابات الأمريكية، أو أن أحدا لا يجد من زاوية مصالحه ما يدفعه إلى اتخاذ مواقف من الأصل، وأن الأمر ينبغي أن يترك للفلسطينيين ليقرروا أمورهم حتى ولو كان فشلهم متوقعا كما هي العادة، وعلى أي الأحوال فإن دولة البحرين تقدمت بشجاعة لكي تشارك بمسيرة السلام في المنطقة.
ما حدث عمليا في المؤتمر كان "موقفا" وليس "سياسة"، وكان الموقف من ضرورة الوحدة بين الفصائل، واستمرار النضال السلمي، وفي قول آخرين "النضال وكفى" بالمعنى العسكري لمن يفك الشفرة الفلسطينية الكلامية. ورغم دعوة الوحدة تعددت النداءات بضرورة إنهاء اتفاقيات أوسلو التي تعني عمليا إسقاط السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها. أما السياسة - أي العمل على تغيير الواقع – فجاءت عندما صاحب المؤتمر اتفاقا بين حماس في قطاع غزة والحكومة الإسرائيلية وبوساطة قطرية، وتمويل قطري أيضا "١٧ مليون دولار" على إنهاء تصعيد مستمر لأسابيع على طول الحدود بين إسرائيل وغزة. وبموجب الاتفاق، تنهي حماس إطلاق "البالونات" الحارقة وتوقف إسرائيل من جانبها الضربات الجوية. وقالت حماس إن التفاهم سيسهل الطريق أمام تنفيذ مشاريع لم تذكرها "تخدم سكان غزة وتخفيف المعاناة وسط موجة فيروس كورونا"؛ أما إسرائيل فصدر عنها أنه في حالة استمرار حالة الهدوء فإن إسرائيل سوف تقوم بمد غزة بخط كهربائي عالي القدرة، وتقدم تسهيلات لعمليات الصيد في البحر المتوسط. باختصار سوف تضاء شوارع غزة بالكهرباء الإسرائيلية، وسوف يحصل الفلسطينيون على المزيد من السمك وبلح البحر نتيجة عودة الهدوء والعلاقات الهادئة مع الدولة العبرية.
هذا الفارق ما بين "الموقف" المتشدد و"السياسة العملية" المرنة للغاية، عكس حقيقة الأمر الفلسطيني القائم على الانقسام ليس فقط بين رام الله وغزة، أو بين السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة حماس، أو بين فتح في ناحية وبقية الفصائل الفلسطينية المعادية لأوسلو في ناحية أخرى. وأكثر من ذلك حقيقة أخرى هي أن الدولة التي يدعوا الفلسطينيون إلى تأسيسها لن تكون مثل الدول المستقلة الأخرى في العالم، حيث توجد سلطة واحدة مركزية وفي يدها قرارات الحرب والسلام، ولها وحدها الحق المشروع في استخدام السلاح. ورغم ما يبدو في الكلمات والمواقف من غضب فلسطيني على الخطوات الإماراتية والبحرينية، فإنها في حقيقة الأمر ومن أكثر فصائلها تشددا أن هناك ضرورات حياتية تدعو إلى إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل ليس فقط فيما يتعلق بالكهرباء وصيد السمك وإنما أيضا بالواقع العملي للعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية حيث العملة المشتركة بين الطرفين هي "الشيكل" للتعامل المالي، ووقف إطلاق النار للتعامل الأمني. التشابك بين الضفة الغربية وإسرائيل أكثر عمقا لأنه يشمل تنسيقا أمنيا وسوقا للعمل والضرائب والجمارك وسفر القيادات المختلفة من مطار بن جوريون. وهو واقع اعتبرته القيادات الفلسطينية المختلفة من طبائع الأشياء التي لا يجوز مناقشتها أو التعرض لها.
في ظل كل ذلك فإن "الموقف" الفلسطيني من الخطوتين الإماراتية والبحرينية لا يبدو مبررا، اللهم إلا عندما تحكم تقاليد تاريخية فات وقتها وزمانها، وتدفع في اتجاه إعادة مشاهد انتهى أوانها منذ وقت طويل، ولم يعد مفهوما كيف يمكنها أن تحقق تقدما للحالة الفلسطينية. المؤكد أنه لا المبادرة الإماراتية ولا الخطوة لم تتحدث باسم الفلسطينيين، وأن موقفها من القضية لم يختلف عما كان سابقا عليها من أنها تريد دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وهو موقف جميع الدول العربية. ولكن القضية دائما ليست في المواقف، وإنما في السياسة التي تغير الواقع وتنقله من حال إلى آخر حتى تحقق الهدف. ولكن المعاهدات الإمارتية والبحرينية الإسرائيلية للسلام لهما أبعادهما الخاصة بالتوازن الاستراتيجي العام في المنطقة كلها؛ وهو الأمر الذي لم يترك بصمة واحدة على المؤتمر الفلسطيني المشار إليه. وهي في حقيقة الأمر خلقت واقعا جديدا ظهر من حالة الانفعال التركي الإيراني المشترك والرغبة المفاجئة في نصرة القضية الفلسطينية بعد سلسلة من الاعتداءات على الأراضي العراقية والسورية والليبية.
لحسن الطالع أن الدول العربية لم تعد تفكر بنفس الطريقة التي تماثل طريقة القيادات الفلسطينية أو بالأحرى فصائلهم السياسية التي تتقاتل على كل شيء ولا تجتمع إلا ساعة إدانة دولة عربية أخرى. وعندما جاء اجتماع جامعة الدول العربية للنظر في الموضوع كان هناك الإصرار الفلسطيني على إدانة الخطوة الإماراتية. وعندما رفض العرب القبول بهذا القرار، جاء دور الإدانة على الجامعة نفسها، وأنها لا تفعل شيئا لا للعرب ولا للفلسطينيين، وكأن الفصائل الفلسطينية التي لم تحقق شيئا للقضية لقضية الفلسطينيين منذ اتفاق أوسلو الذي يريدون إلغاءه اليوم، باتت على أبواب الدولة الفلسطينية.
الثابت أن القضية الفلسطينية لم تعد جادة على طاولة المجتمع الدولي إلا بعد المبادرة المصرية للسلام وجاءت فلسطين صريحة في اتفاقيات كامب ديفيد. ولم يحصل الفلسطينيون على أول كيان سياسي على الأرض الفلسطينية إلا بعد عقد مؤتمر مدريد الذي حضرته الدول العربية مع إسرائيل بعد حرب تحرير الكويت.
لقد آن الأوان لكي يفكر الفلسطينيون بطريقة أخرى على أساس أن قضية العرب المركزية لا تعني أن تكون كل القضايا العربية الأخرى هامشية حتى وهي تهدد صميم الأمن القومي لدول عربية أخرى في أراضيها وقدراتها. وربما لو ساد التفكير الذي ينظر للأمن الإقليمي العربي كله في شموله فإن الخلاف على المبادرة الإماراتية والخطوة البحرينية لا يبدو مبررا ولا قادرا على استخدام هذه الخطوة إلى الأمام بالنسبة للحقوق الفلسطينية، وبالتأكيد أكثر بكثير من خطوات التهدئة وصيد السمك وإنارة شوارع غزة بالكهرباء الإسرائيلية. لقد تغير العالم، وتغيرت المنطقة، وعندما يحدث التغيير بهذا الثقل والكثافة فإن المفتقدين للبصر والبصيرة يفتقدون الكثير من الفرص المتاحة في زمن عزت فيه الفرص.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة