تتحرك دولة الإمارات حركة مدروسة مبنية على تحقيق مصالح الدولة العليا، وفق قرار سيادي للدولة لا يجوز لأي طرف آخر التدخل فيه.
المتابعُ لسياسة دولة الإمارات العربية المتحدة، منذ تأسيسها عام 1971 وحتى اليوم، سيجدها ترتكز على قواعد استراتيجية ثابتة، منها الحرص على احترام المواثيق والقرارات الدولية، وإقامة علاقات مع جميع دول العالم على أساس الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، والتسامح، والانفتاح على الشعوب والثقافات المختلفة كمقومات لإرساء التعايش السلمي والمشترك بين الدول.
رسخ هذا النهج المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيب الله ثراه - في سياساته الداعية الى السلام العالمي، والتفاهم والحوار على المستوى الدولي، والانفتاح على كل الشعوب، وعبر عنه في مقولته الخالدة "إنَّ تعاليم ديننا تُملي علينا التعاون مع كل إنسان مهما كانت ديانته، وإننا نؤمن بجدوى الصداقة والتعاون بين العالم لأن فيه خير البشرية جمعاء".
لذلك، فإنه على يد القيادة الرشيدة التي حملت الأمانة بعد الآباء المُؤسسين: صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وإخوانهم أصحاب السمو حُكام الإمارات، أصبح واقعنا اليوم، يُعبر عن إرث تاريخي ممتد من عهد الشيخ زايد ـــ طيّب الله ثراه ـــ مُجسداً روح السلام والتسامح في صورٍ عديدة، لعل من أبرزها إنشاء مجلس حكماء المسلمين في 2014، واحتضان منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة لخمس سنوات متتالية (2014-2018)، ثم احتضان مؤتمر الأخوة الإنسانية بهدف تفعيل الحوار حول التعايش والتآخي بين مختلف الديانات والثقافات. إضافةً لذلك كان إنشاء المعهد الدولي للتسامح في دبي، وإعلان الدولة عن بناء بيت العائلة الإبراهيمية بهدف الحوار بين الأديان الثلاثة "الإسلام والمسيحية واليهودية"، وإغلاق الأبواب أمام الجماعات المتطرفة والإرهابية التي تستغل الاختلافات الدينية لنشر العنف والكراهية.
ضمن هذا النهج أنشأت الدولة وزارة للتسامح طرحت العديد من السياسات والمبادرات في مجالات السلم والتعايش. كما حمل إعلان صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله بأن يكون عام 2019 "عام التسامح"، رسالة سامية بأن الإمارات تعمل لترسيخ قيم التسامح، وأن الحوار وتَقَبُل الآخر هو عمل مُستدام يعبر عن قيم الدولة، وأن مستقبل العلاقات في الاستقرار والتنمية سيكون مرهونًا بمكافحة الكراهية والتمييز باسم الدين أو العرق أو اللون.
ولهذا كله، فإنَّ الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي، جاء متسقا مع منظومة هذه المبادئ والقيّم التي تؤمن بها دولة الإمارات، وتجسدت فعلاً وواقعاً بمبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبمباركة قيادة الدولة الرشيدة، عاقدين العزم على المضي في طريق المساهمة الفعّالة في حل صراعٍ طالت سنواته، وتعقدت خطواته، واضعين في الاعتبار مجموعة أبعادٍ، حاضرة دوماً في فكر ووجدان صاحب القرار.
حيث يأتي البُعد الأول متمثلاً في القضية الفلسطينية، فتلك القضية لم تغب يوما عن أولويات دولة الإمارات، بدايةً على يد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، ومواقفه التي يعرفها القاصي والداني في دعم القضية الفلسطينية. واستمراراً على يد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة – حفظه الله- حيث أكد "أن قضية الشعب الفلسطيني هي قضيتنا، والأرض هي أرضنا" ووصولاً ليومنا هذا الذي عقد فيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان العزم على أن الإمارات ستتحرك سياسياً ضد خطوة إسرائيل في ضم الأراضي الفلسطينية، ومن هنا جاء تحرك سموه نحو هذا الاتجاه، وهو تحركٌ انطلق من عدة أسباب، وعاقداً العزم على تحقيق عدة أهداف:
فأولاً، قرار الضم الذي كان على وشك الصدور، كان يعني عملياً إنهاء حل الدولتين، والبديل عندئذ هو أن يضطر الفلسطينيون لقبول مساحة صغيرة مقطعة الأوصال في الضفة الغربية وغزة، ورفض هذا البديل قد يكون مؤداه الذوبان في دولة إسرائيل، ومن ثم تنتهي دولة فلسطين إلى الأبد.
ثانيا، يفتح هذا الاتفاق باب العودة للمفاوضات، حيث اخترق الاتفاق حالة الانسداد الكامل، والشلل التام للقضية الفلسطينية منذ عام 2014، تحت وطأة اشتداد وتيرة الأزمات العربية التي جعلت القضية الفلسطينية تتراجع في سلم أولويات القضايا، وبذلك يعطي الاتفاق أملاً جديداً في إحياء القضية على طاولة المفاوضات، ليمضي الفلسطينيون بأنفسهم في طريق يمكن أن يعودوا منه بتسوية يرتضونها.
ثالثاً، إن حقائق التاريخ تشير إلى أن كل ما استطاع العرب الحصول عليه من إسرائيل لم يكن له من سبيل إلّا من خلال التفاوض والحوار معها. فمصر لم تسترد أراضيها في شبه جزيرة سيناء بالحرب التي انتصرت فيها ولكن بالتفاوض، وكذلك المملكة الأردنية عندما وقعت اتفاق وادي عربة في 1994.
رابعاً، هذا الاتفاق جعل السياسة الأمريكية تتراجع خطوة - في إجراء نادر- فيما يتعلق بعلاقاتها وتحالفها مع إسرائيل على مدى 72 عاماً، فتراجع الولايات المتحدة، عن دعم الخطة الإسرائيلية بضم أراضي الضفة الغربية وغور الأردن، يمثل إنجازاً دبلوماسياً، سوف يُبنى عليه وضعٌ تُعاد فيه حسابات العقل لتلك العلاقات.
وتوافقًا مع بُعد القضية الفلسطينية يأتي البُعد الثاني، وهو البُعد العربي، ذلك أن دولة الإمارات منذ تأسيسها ظلت حريصة في دستورها وفي ممارساتها، على عمقها العربي ومهتمة بكل قضاياه، ولن ينسى التاريخ مقولة وموقف الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه – إبان حرب أكتوبر 1973 "بأن النفط العربي لن يكون أغلى من الدم العربي" فكان قرار المقاطعة العربية لكل الدول الغربية الداعمة لإسرائيل آنذاك.
ولعل كل مُطَلعٍ على الموقف العربي يُدرك أنه منذ طرح المبادرة العربية للسلام، في 28 مارس 2002 في قمة بيروت، وخلال الثمانية عشر عاماً، التي مرّت على تلك المبادرة، لم يحدث تقدم يُذكر، بل فُرضت وقائع جديدة ومريرة على الأرض تمددت وتوغلت حتى وصلت إلى إعلان إسرائيل قرار ضم أراض في الضفة وغور الأردن. وأدركت الإمارات أن الوقت لا يعمل في صالح العرب ولذلك جاء الاتفاق مع إسرائيل كسرًا للجمود وتحريكًا لمياه ركدت نتيجة فكر توقف عند موقفٍ لم يتغير، بينما الظروف الإقليمية والدولية تغيرت بما يستدعي استراتيجيات جديدة.
لذلك جاء هذا الاتفاق وسار في خطٍ متوافق مع أساسيات المبادرة العربية التي تقوم في ظاهرها وباطنها على أساس "أن الحل العسكري للنزاع العربي الإسرائيلي لن يحقق السلام والأمن لأي من الأطراف" وعلى مبدأ أن "الأرض مقابل السلام"، وهذا يتطلب، بالقطع والضرورة، الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل لتنفيذ متطلبات هذا الخيار، لأنه من غير المنطقي أنْ نتوقع أنَّ إسرائيل سترفع راية الاستسلام لتنفيذ متطلبات المبادرة دون حوار، أو تُعطى صكًا على بياض بالتنازل عن الأراضي العربية المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية دون أن تضمن احتياجاتها السياسية والأمنية.
وتكملة لمنظومة الأبعاد التي يسير معها هذا الاتفاق يأتي الُبعد الثالث، وهو البُعد الاستراتيجي الوطني لدولة الإمارات، في صورته السياسية والاقتصادية: فدولة الإمارات تستقرئ التغيرات الدولية والإقليمية، وتضع في حساباتها المخاطر المحيطة بها، وما تتطلبه من استراتيجيات في عالم مضطرب ومتغير، على غرار ما جاء بمقولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـــ طيّب الله ثراه ـــ من أن السياسة لا تعرف صديقًا دائمًا، ولا عدوًا دائمًا، وأن عدو الأمس قد يكون صديق اليوم، والعكس صحيح. وهذا منطلق من المنطلقات التي ساهمت في إطلاق مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، فهي مبادرةٌ لم تأتِ وليدة الصدفة، وإنما هي تعبيرٌ عن رؤية استراتيجية تستشرف مقومات الدولة وقدراتها في حاضرها ومستقبلها، وقراءة متعمقة لمتغيرات السياسة الدولية، ومحاولة إعادة ترتيب مصفوفة المخاطر التي تحيط بنا. فكل ذي بصرٍ وبصيرة يرى أن بعض دول الجوار تريد أن تُعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وتحلم بهيمنة تُعيد لها خلافة، يزعمون أنها إسلامية، وهي بعيدة كل البُعد عن ذلك، بل هي أورثت العرب تخلفاً وجهلاً. والبعض الآخر من تلك الدول يسعى إلى تصدير أفكار متطرفة لإشعال فتيل الانقسامات الدينية والسياسية والمذهبية أملاً في السيطرة على موارد وإمكانات الدول العربية.
إزاء كل ذلك، تتحرك دولة الإمارات حركة مدروسة مبنية على تحقيق مصالح الدولة العليا، وفق قرار سيادي للدولة لا يجوز لأي طرف آخر التدخل فيه، أو في بنية المصالح التي يسعى لتحقيقها. ويقف مع هذا القرار شعبٌ يلتف حول قيادته، واثقٌ من حُسن وعميق تقديرها لمصالح هذا الشعب والوطن، ومُدركاً للرصيد التاريخي المتراكم من الثقة المتبادلة، فذلك الرصيد الممتد والمتأصل هو ركيزة من الركائز التي قام عليها قرار صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في مبادرته نحو الاتفاق مع إسرائيل، خصوصاً في ظل حالة الفراغ الاستراتيجي التي تولدت نتيجة الصراعات والحروب في الكثير من أرجاء الوطن العربي بدعم وتأثير مباشر أحيانا من أطراف خارجية، وفي ظل حالات تسييس الدين، وتديين السياسة، وما نجم عن كل ذلك من تفشي الظواهر والجماعات الإرهابية داخل أقطارنا العربية. كل هذا يتطلب إعادة ترتيب الأوراق والأولويات والحسابات وتقييم العلاقات بيننا وبين دول العالم ودول المنطقة لنستفيد ونفيد، ونفتح أبواب الفكر لقراءة مغايرة في حل الأزمات، ولنأخذ من السياسة الدولية ما يخدم قضايانا.
والقارئ الجيد لصورة المشهد الكاملة يتيقن أن تلك الصورة السياسية تدعمها الصورة الاقتصادية، حيث إن الدولتين "طرفي الاتفاق" هما من أكبر اقتصاديات المنطقة. ومن خلال هذا الاتفاق يتم تبادل الفوائد والمنافع بين الطرفين، خاصة في قطاعات التكنولوجيا، كما أن الاتفاق سيفتح أيضا آفاقاً واسعة لتنفيذ مشروعات زراعية مشتركة، وكذلك في قطاع السياحة، ومعالجة المياه، وزيادة إنتاجية الأراضي الزراعية. ولعل انعكاسات الاقتصاد وفوائده تلعب دوراً مؤثراً في تشجيع مواطني إسرائيل على اختيار القيادات التي تؤكد وتدعم خيار السلام مستقبلاً.
وفي الخاتمة، نؤكد على أن السياسة الخارجية لدولة الإمارات تقوم على الانفتاح على كل دول العالم، وبناء علاقات متوازنة، واستثمار كل ما يلزم من هذه العلاقات لخدمة المصالح العليا للدولة ولكل البلاد والقضايا العربية، ولتحقيق الأمن والسلام في المنطقة. تلك السياسة يأتي في سياقها هذا الاتفاق مع إسرائيل ليفتح طريقًا جديدًا من تلك العلاقات المتوازنة، وهو طريق فَتحت أبوابه إرادةٌ قوية باحثة عن مصالح مواطنيها، ويقينٌ بأن الغد يحمل كل الخير والتقدم والأمن لوطن وشعب يتكامل دومًا مع قيادته ثقةً ومحبةً وإخلاصاً، وتطلعًا لمستقبلٍ تتأكد فيه كل يوم نجاحات وإنجازات دولة الإمارات، ويأتي اليوم دور الشعوب الواعية في فهم متغيرات العالم وكيفية التوافق معها لتستفيد ونستفيد، في عالم اليوم الذي انفتح شرقه على غربه وشماله على جنوبه، والعاقل هو من يسير معه بوعي الانفتاح وبقوة القرار، والله الموفق والمستعان.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة