خشب لبناني ومكتشف ياباني.. مركب خوفو الثاني «يبحر» من جديد (خاص)
بعد آلاف السنين من الدفن في جوف الأرض، يعود المركب الشمسي الثاني للملك خوفو ليحكي أسرار الفراعنة أمام زائري المتحف المصري الكبير.
يشهد المتحف، يوم الثلاثاء 23 ديسمبر/كانون الأول، حدثا فريدا، إذ تُنقل ألواح مركب الملك خوفو الثانية من موقع ترميمها إلى مكان عرضها في متحف مراكب خوفو بالمتحف الكبير، تمهيدا لإعادة تركيبها أمام الزائرين، في تجربة تعليمية وتاريخية نادرة تكشف براعة الفراعنة في صناعة القوارب الملكية.

وسبق هذا الحدث الكثير من التفاصيل العلمية والفنية، التي بدأت باكتشاف المركب على يد العالم الياباني ساكوجي يوشيمورا، مرورا بالعمل على ترميم أخشابه، ثم اكتشاف أصلها الذي كشف عن مفاجأة بأن الجزء الأهم منها جاء من لبنان.
البداية من عام 1954
تعود قصة مركب خوفو الثانية إلى سنوات الاكتشافات الأثرية في هضبة الجيزة، حيث اكتشف علماء الآثار عام 1954 المركب الشمسي الأول للملك خوفو المدفون بجانب الهرم الأكبر، المصمم لحمل الفرعون في رحلته إلى الخلود.
وفي اليابان، كان الصغير ساكوجي يوشيمورا مفتونا بهذه الأخبار منذ سن العاشرة، وقرر أن يكرس حياته لدراسة مصر القديمة. وبعد اثني عشر عاما، وصل يوشيمورا إلى مصر في عام 1966 ليبدأ رحلته البحثية، مستلهما من المركب الأول ومتسائلا عن احتمال وجود مركب ثان على الجانب الآخر من الهرم، في سبيل فهم توازن الفراعنة وانسجامهم مع الطبيعة والرموز المقدسة.
واستمرت رحلة البحث والصبر لعقود حتى تمكن يوشيمورا من اكتشاف المركب الشمسي الثاني رسميا عام 2011، بعد الحصول على التصاريح اللازمة ورفع كتل الحجر الجيري التي ظلت تغطيه آلاف السنين.
وكان هذا الاكتشاف بداية مرحلة دقيقة وطويلة من الترميم العلمي، استمرت نحو عشر سنوات، تضمنت حماية الألواح الخشبية الهشة، مسحها ثلاثي الأبعاد، وإعادة تركيبها على هيكل داعم غير مرئي، لتعود المركب إلى شكلها الكامل دون الإضرار بالمواد الأصلية، مظهرة براعة الفراعنة في البناء ومهارة العلماء المعاصرين في الحفاظ على التراث.

أربعة أنواع من الأخشاب
ولم يكتفِ يوشيمورا بذلك، بل سعى لفهم أصل الأخشاب التي استخدمت في بناء المركب، وقاد دراسة نُشرت قبل ثلاث أعوام في دورية " فورستس"، كشفت عن الأصل اللبناني للأخشاب المستخدمة في الجزء الأهم من المركب.
وأظهرت الدراسة أن القارب استُخدم فيه أربعة أنواع رئيسية من الأخشاب:
خشب سيدروس لبنان: كان العنصر الأبرز في بناء أعمدة وسقوف القبة والكبائن الأمامية. يُستورد من جبال لبنان، ويتميز بالمتانة العالية، ومقاومة الفطريات والحشرات، وقوة التحمل على مدى قرون.

خشب العرعر: شكل نحو 85% من ألواح وإطارات وكبائن المركب. خشب محلي متين وسهل التشكيل، ذو رائحة عطرية مميزة وقوة طبيعية عالية، استُخدم لتفادي العيوب في الخشب المستورد وضمان صلابة الهيكل.
خشب الزعرور المصري: استُخدم في نحو 25% من عوارض المقدمة الأمامية للقارب، وهو أول مرة يُكتشف استخدامه في صناعة القوارب المصرية القديمة، ويتميز بالقوة والصلابة، ما جعله مناسبا للعوارض الحاملة.
خشب الأكاسيا: استُخدم في تصنيع المسامير والأوتاد، ما يعكس اختيار الفراعنة لأخشاب متنوعة بحسب خصائص كل جزء من القارب لضمان دقة التركيب ومتانة البناء.

مزيج فريد من التقنية والفن
وتظهر هذه التحليلات العلمية أن المصريين القدماء لم يختاروا الأخشاب بشكل عشوائي، بل استخدموا خشب سيدروس لبنان للأجزاء الرئيسية لضمان المتانة وطول العمر، ودمجوا الأخشاب المحلية مثل العرعر والزعرور لضمان متانة الروابط والعوارض، وهو ما يكشف فهمهم العميق للخواص الميكانيكية للأخشاب وتقنيات البناء المتقدمة منذ نحو 4500 سنة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTAzIA== جزيرة ام اند امز