بيروت والرواية العربية.. مدينة الإلهام والإبداع والمتناقضات
ليلة حزينة أمضاها العالم؛ لم تكن الفجيعة فقط في انفجار مرعب مروّع شاهده الملايين، بل في الكارثة التي لم تشهد لها البشرية مثيلا.
"ها أنتِ دفعتِ ضريبةَ حسنكِ مثل جميعِ الحسناواتْ.. يا بيروت" (نزار قباني).
ليلة حزينة أمضاها العالم والإنسانية كلها؛ لم تكن الفجيعة فقط في انفجار مرعب مروّع شاهده الملايين على الشاشات، بل في الكارثة التي لم تشهد لها البشرية مثيلاً ربما منذ مصيبة إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية الثانية.
مرفأ كأنه لم يكن، شوارع بأكملها تختفي وأخرى تحترق، عشرات البنايات تحولت إلى أكوام تراب، وتبدو في الصور بقايا الحياة في الغرف العارية، مناضد مقلوبة ولعب أطفال ملوثة بالدم وصور فوتوغرافية وتماثيل مهشمة على الأرض.
بيروت الإلهام والإبداع
وتبقى بيروت إحدى أكثر المدن العربية حضوراً في المخيال الإبداعي الروائي العربي؛ فلم تكن أبدا بالمدينة التي تغيب عن الذاكرة وعن التمثيل الجمالي في إبداعاتها الروائية والقصصية والمسرحية والشعرية على السواء.
وما من رواية من روايات الحرب الأهلية لم تتعرض لبيروت الجغرافيا والتاريخ؛ الأحياء والشوارع والطرقات، من لم يرها رأي العين رآها بخياله مجسدة بين سطور الأعمال والروايات.
ملجأ المثقفين والمبدعين
لعبت بيروت دورا تاريخيا وثقافيا وأدبيا كبيرا؛ تلك المدينة التي وصفها سمير قصير، في كتابه "تاريخ بيروت" بـ"جمهورية الآداب العربية"، عبر ما قدمته من إنتاج أدبي عربي، على مستوى كتابة الشعر والنثر والسرد والمسرح، والفن عمومًا، وخصوصًا على مستوى ما لعبه كتابها.
وتضطلع بيروت بدور طليعي في الدوريات والمطابع ودور النشر والمعارض، وأيضًا عبر ما وفرته المدينة من خدمات وإمكانات لافتة للإبداع والتجديد، منذ خمسينيات القرن الماضي، فضلا عن كونها شكلت، منذ فترة مبكرة، ملجأ مفتوحا لعديد الأدباء والكتاب العرب والأجانب، وأرضية انطلاقة ناجحة لمعظمهم.
درة المدن المتوسطية
وفي صلب هذا الدور التاريخي والإبداعي الذي لعبته بيروت، يبدو أن الرواية اليوم هي الأكثر حضوراً وجاذبية للروائيين اللبنانيين وغيرهم، بما تقدمه لهم المدينة من إمكانات وافرة للإبداع، ولإدراك التحولات في المجتمع، وبما تفتحه أمامهم من آفاق واسعة لاستعادتها في عديد صورها وملامحها ورؤاها وأحداثها وحكاياتها وفضاءاتها.
وتعد بيروت مدينة للمتناقضات، فهي مدينة للحرب والدمار والموت، ومدينة للعشق والجمال والحياة.
ولا غرابة في ذلك، ما دام أن بيروت قد ارتبطت بالرواية منذ بداية المشروع الروائي العربي، بل ثمة من المؤرخين من يعتبرها المدينة الأولى على مستوى الريادة الروائية العربية.
وها هي اليوم تواصل الصمود أمام منافسة بعض المدن العربية التاريخية المتوسطية لها، رغم ما تعاقب عليها من كوارث وحروب وأحداث جسام، موازاة مع ما أحدثه ذلك فيها من خراب ودمار وموت.
صنع الله يوثق اجتياح المدينة
"بيروت بيروت" واحدة من أشهر أعمال الروائي المصري المخضرم صنع الله إبراهيم؛ كانت من أسبق الأعمال لتوثيق المدينة وإدانة الاجتياح الإسرائيلي البربري للبنان في مطالع ثمانينيات القرن الماضي.
اختار صنع الله إبراهيم؛ صاحب الأسلوب السينمائي التسجيلي المتميّز في الرواية العربية، أن يكون افتتاح روايته "بيروت.. بيروت" في الطائرة المتجهة إلى العاصمة اللبنانية، بتحديد الأمكنة والأحداث والشخوص بدقة توثيقية شديدة، وكأنه أراد أن يقدم صورة فوتوغرافية أمينة وشديدة الدقة لبيروت وتفاصيلها ومعالمها.
مأساة الحرب والفجيعة
أما الروائي اللبناني المعروف جبور الدويهي؛ فكانت بيروت حاضرة بكامل حمولتها الثقافية والتاريخية والإنسانية في نصوصه كلها تقريبا؛ ومنها "مطر حزيران" ورائعته التي لا تنسى "شريد المنازل"، التي فتحت له عبور الحدود اللبنانية لكل أرجاء العالم العربي والأوروبي والأمريكي، ثم روايته المهمة "طبع في بيروت".
رائعة جبور الدويهي "شريد المنازل" جسدت ببراعة تشابكات اللحظة التاريخية والاجتماعية في لبنان لحظة اندلاع الحرب الأهلية.
الدويهي من المولعين بالكتابة عن المكان، والإحاطة بمفرداته والتنصت للغته وتاريخه.
يقول: "أكتب في كل حال انطلاقا من شعوري بالأمكنة، ولا أبدأ بالكتابة إن لم أحط شخصياً بميزات المكان وإمكاناته الروائية وأبعاده الرمزية والثقافية والاجتماعية. والبلدات والمدن التي تجري فيها أحداث الرواية عشت فيها وتنقلت فيها لزمن طويل.. كتابتي مكانية في الأساس".
ويطبق هذا حرفيا في "شريد المنازل" من خلال تمثيله الجمالي لبيروت الفضاء التي انقسمت بانقسام أهلها شيعا وأحزابا وطوائف في سنوات الحرب الأهلية.
بيروت في ضوء اللهب
في "حكاية زهرة" رائعة حنان الشيخ، أنت أمام موقف إنساني جديد، وأمام تحقيق أدبي مهم في مجال الرواية؛ كما يقول علاء الديب "ستختزن الشيخ روحَ بيروت المدينة والثقافة والمحكية، وتعبر عن المحلية بلغة عامية لبنانية متحدة اتحادًا عضويًا، بعربية فصيحة".
"ستستقبل الرواية بتلهف ربما لأن الشوق قد طال للبنان، أو ربما لأن جراح لبنان نزفت في صمت أزكى ما في دماء العرب من أصالة ونخوة وشهامة، نزفت، نزفت واستمر النزيف، دون حتى أن يحاول أحد، مجرد التعبير عنه".
"زهرة" فتاة لبنانية، عاشت طفولتها وصباها، بين "الضيعة" و"بيروت"، تعيش في رعب قائم تحت ظلام أسرة متوسطة مفككة، في لبنان كانت الحرب الشاملة؛ وفي بيروت المدينة ستنكوي بها بلا منطق ولا مبرر، بلا انتصار ولا هزيمة. تحت القصف والنيران تجد نفسها للمرة الأولى في حياتها في مواجهة المدينة التي تحبها وتعتصرها في آن.
وضعت حنان الشيخ هذه المأساة الفادحة، في إطار أكثر من واقعي، وعبرت عن مأساتها الخاصة والعامة، وقدمت في الصفحات الأخيرة مرثية رائعة للبنان ككل ولبيروت بالأخص.