كان من الهرطقة أن يشكك أحد بوطنية الجنرال أو ينال أحد من هيبة السيد، أو يتعرض أحدهم لسمعة البيك
بمنطق تفضيل المصلحة الشخصية على الوطنية يمثل الرئيس ميشال عون رأس الفساد السياسي في لبنان. منذ عودته من المنفى عام 2005 بقي يعقد الصفقات السياسية الواحدة تلو الأخرى من أجل الوصول إلى رئاسة الدولة. وفي عام 2016 أبرم تحالف الشيطان مع حزب الله وحركة أمل، فتحقق حلمه ولكنه أدخل البلاد في أتون أزمة اقتصادية وسياسية كبيرة تفجرت منذ بضعة أشهر، وخرجت ثورة شعبية تطالب بتغيير النظام السياسي بأكمله، بما في ذلك الرئيس عون.
دون أي مبرر استثنى "أب الكل" نفسه من التغيير الذي يطالب به الحراك الشعبي. بقي عون في السلطة وكأنه قائد الثورة التي لا تريد برأيه سوى محاربة الفساد وإعادة المال العام المنهوب. وكأن فرسان الفساد هم من كوكب آخر، أو من خارج الطبقة السياسية التي يجلس عون على رأس الهرم فيها. خطب رئيس الدولة مرات بالحراك طالبا لقاء ممثليه، ولكن دون جدوى. وعندما استقال رئيس الوزراء السابق سعد الحريري من منصبه راح عون يبحث عن تسوية في تسمية رئيس حكومة جديد تبقي كرسيه خارج دائرة التغيير، وتبقي على أحلام صهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بالوصول إلى رئاسة الدولة في المستقبل.
كان من الهرطقة أن يشكك أحد بوطنية الجنرال، أو ينال أحد من هيبة السيد، أو يتعرض أحدهم لسمعة البيك، أو يتحدث عن تبعية الشيخ، أو تأمر الحكيم، أو انتهازية الدبلوماسي، أو احتكار بري للمؤسسة التشريعية في البلاد
بقاء عون في السلطة يعني باختصار إنجاز التسوية تلو الأخرى للإبقاء على النظام السياسي القائم، وآخر التسويات كانت تكليف الدكتور حسان دياب برئاسة الوزراء، لا يلتقي دياب مع مطالب الحراك؛ لأنه ببساطة كٌلِّفَ عبر الطبقة السياسية التي يريدها الحراك أن ترحل عن السلطة، ولكن عون وحلفاءه من رؤساء لبنان الكثر جعلوا من دياب سقف أحلام المحتجين، وراهنوا على انقسام الشارع بين مطالب الثورة، والنقمة على إزاحة الحريري عن رئاسة الحكومة.
معضلة لبنان هي في كثرة رؤسائه منذ اتفاق الطائف عام 1989، لكل طائفة زعيم يدير شؤونها وعلاقاتها مع بقية الطوائف والدولة ككل. وحتى قيام الثورة قبل بضعة أشهر، كانت كل طائفة ترى في رئيسها الزعيم الأطهر والأقوى والأكثر وطنية ونزاهة. مجموعة الرؤساء، وغالبيتهم أمراء حرب، يديرون البلاد بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تحالفات سياسية وتفاهمات اقتصادية وأمنية، تصب في مصلحتهم ومصلحة داعميهم في الداخل والخارج، وآخر ما يشغل بالهم الدولة والشعب.
عون واحد من رؤساء لبنان الكثيرين، ولكنه ليس الأقوى. أقوى الرؤساء اليوم أمين عام حزب الله حسن نصر الله، ثم يأتي رئيس حركة أمل ورئيس البرلمان منذ عقود نبيه بري. من الرؤساء أيضا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، بالإضافة إلى الحريري وباسيل. ثمة أسماء أخرى، وهناك أيضا رؤساء الصف الثاني. جميع هؤلاء يمثلون النظام في لبنان، وعندما نتحدث عن التغيير فهذا يعني إزاحة كل هؤلاء عن المشهد السياسي، وكما يقول المتظاهرون منذ اليوم الأول للاحتجاجات "كلن يعني كلن".
التغيير الحقيقي في لبنان يتمثل في إسقاط جميع الرؤساء. وترجمة هذا على أرض الواقع، تكون باستقالة عون والحريري وحل البرلمان وإجراء انتخابات عامة مبكرة لا تشارك فيها الأحزاب بشكلها الحالي. من الأفضل أن يحافظ الشارع على تصعيده حتى يقطف هذا الإنجاز كاملاً. ولكن الأوضاع الاقتصادية في البلاد ربما لا تحتمل مثل هذا التصعيد، زمناً وليس إرادة. خاصة أن التفاهمات الدولية المرتبطة بالساحة اللبنانية لا تزال غير واضحة.
وأياً كانت نتائج هذه المواجهة بين الرؤساء والحراك الشعبي، وأُفضلُ اعتبارها الجولة الأولى للثورة، إلا أنه يسجل للحراك هدمه لقداسة الرئاسات في لبنان. وهي مرحلة كانت ضربا من ضروب الخيال قبل أشهر قليلة فقط، كان من الهرطقة أن يشكك أحد بوطنية الجنرال، أو ينال أحد من هيبة السيد، أو يتعرض أحدهم لسمعة البيك، أو يتحدث عن تبعية الشيخ، أو تأمر الحكيم، أو انتهازية الدبلوماسي، أو احتكار بري للمؤسسة التشريعية في البلاد.
ما كشفته المظاهرات هو أن رؤساء لبنان يستمدون قداستهم من طائفيتهم وليس من وطنيتهم، لذلك عندما ثار اللبنانيون كشعب وليس كطوائف لم يجد هؤلاء الزعماء لهم مكانا في هتافات وأناشيد المتظاهرين، ولا في الصور والأعلام التي رفعوها، ليس هذا فقط، وإنما تحولوا إلى مادة للسخرية والنكات ومواضيع لنكات زادت من لحمة الشارع وقربت المتظاهرين من بعضهم بعضا.
تقدم الوطنية على الطائفية لدى غالبية اللبنانيين أقلقت ملوك الطوائف الذين ظنوا أن نياشين الحرب الأهلية التي خاضوها مع طوائفهم ستبقيهم خارج دائرة النقد إلى الأبد، لم يدركوا أن الأجيال التي ولدت بعد الحرب تتطلع إلى الحياة ولا تريد أن تبقى سجينة ذكريات الماضي بتضحياته ومصائبه، تخلصت هذه الأجيال من رهاب الحرب الأهلية، وأحالت انقسامها إلى تنوع، فتخلصت من حالة الاستلاب التي عاشها الآباء والأجداد لملوك الطوائف.
تكليف دياب برئاسة الحكومة يعني أن عون ونصر الله وبري أبرموا تحالفا جديدا ليخمدوا الحراك، رياح السموم هبت من خلف ذلك التكليف، فأوقعت انقساما قليلا في صفوف الحراك، ولكنها على عكس ما يشتهي الرؤساء الثلاثة خلقت تصدعا في الميثاقية التي ضمنت لهم ولبقية الرؤساء السيطرة الطائفية على البلاد لعقود. صحيح أن الحراك اليوم بات على المحك في تفكيك طلاسم اللعبة الماكرة التي تحاك ضده، ولكن انهيار الميثاقية بين الرؤساء هو إنجاز حقيقي للحراك في رحلة بناء لبنان واحد بشعب واحد ورئيس واحد وجيش واحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة