يطير رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري من مكان إلى آخر بحثاً عن منقذ لأزمة تشكيل الحكومة.
يطرق الباب تلو الآخر ليجد ذات الرد من الجميع، فمفاتيح الحل في إيران ولن تحررها إلا بضغط من واشنطن، أو اتفاق معها.
مفاوضات فيينا بين إيران والولايات المتحدة تهمّش كل شيء في المنطقة. فتبدو أزمات الشرق الأوسط جميعها معلقة بذات الطريقة التي يعيشها لبنان اليوم، وكأن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تريد إبرام اتفاق نووي مع طهران أولاً، ومن ثم تلتفت لحلحلة بقية الأزمات وتعالجها منفردة، أو ضمن باقة واحدة.
ظاهر الأزمة في لبنان يربطها مباشرة بالتيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، صهر الرئيس الذي يريد أن يصبح رئيساً. ولكن الحقيقة أن المشكلة تبدأ وتنتهي عند حزب الله الذي يستمتع بتعليق الحلول المتاحة للأزمتين السياسية والاقتصادية اللتين تعيشهما البلاد، تارة بشكل مباشر، وتارة أخرى من خلال إتاحة الفرصة للرئيس ميشال عون وصهره ليتصدرا المشهد ويغلقا أبواب المجتمع الدولي أمام اللبنانيين، فلا يسمحان بالإصلاحات ولا يسهلان تشكيل حكومة من الاختصاصيين المستقلين.
السؤال الأساسي هو كيف يتحكم حزب الله بمصير لبنان؟ والإجابة بنوع من الاختصار تنقسم إلى ثلاثة محاور رئيسية؛ الأول هو ما يسمى العهد القديم الذي جمع تياري المستقبل والوطني الحر مع حزب الله وحركة أمل، وهو العهد الذي أوصل ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية وباسيل إلى رئاسة التيار الوطني، والحريري إلى الحكومة، أما الثنائي الشيعي فقد أحكم قبضته على الدولة بمعادلة معقدة جداً.
انقلب الحريري على العهد القديم عندما ثار اللبنانيون نهاية عام 2019 على الفساد وتردي الأوضاع المعيشية، وبات من الواضح أن البلاد ماضية نحو انهيار اقتصادي قد يؤدي إلى حرب أهلية أبشع من التي وقعت القرن الماضي. كان الحريري يظن أن انقلابه هذا يكفي لانهيار العهد، ووضع مكوناته أمام استحقاق جديد يستند إلى حاجة البلاد لإنقاذ الاقتصاد، ولكن الرياح لم تجرِ كما تشتهي سفن تيار المستقبل.
بعد أقل من عام، أعاد العهد القديم الحريري إلى اللعبة السياسية وكلفه بتشكيل الحكومة. فظن أن خصومه قد استنفدوا خياراتهم وأدركوا أن الحل يكمن في حكومة تكنوقراط تنفذ خطة إصلاحية اقترحتها فرنسا بعد انفجار مرفأ بيروت، ولكن مرة أخرى خاب ظن الحريري، واكتشف أنه تورط في عملية تسويف ومماطلة كبيرة لحل الأزمة، لجأ لها حزب الله وحلفاؤه كي يمنحوا إيران الوقت في التفاوض مع الولايات المتحدة، واستخدام لبنان وسوريا والعراق واليمن كأوراق على طاولة فيينا.
العهد القديم ينهار فقط إن انسحب منه الثنائي الشيعي؛ حركة أمل وحزب الله. ولو حدث هذا الانسحاب فلن يصمد عون في رئاسة الجمهورية لأشهر، ولن يكون أمام صهره باسيل إلا القبول بحكومة اختصاصيين لا يملك فيها ثلثاً معطلاً. ولأن المعطيات الراهنة لا تبشر بمثل هذا الانهيار، ذهب سعد الحريري باتجاه التصعيد والعناد مع خصومه، وراح يطرق أبواب الدول التي يمكن أن تضغط على عون أو الثنائي الشيعي، ولكنه عاد بخفي حنين، وتحولت جولاته الخارجية إلى رحلات سياحية.
بعيداً عن العهد القديم، يهيمن حزب الله على لبنان من خلال سلاحه الذي يجعله دولة داخل دولة. ربما لا يستخدمه الآن ضد الداخل، ولكن أمينه العام حسن نصر الله لا يفوّت فرصة للتذكير به، والتلويح بالحرب الأهلية التي يمكن للحزب أن يحسمها لصالحه بسرعة البرق بفضل سلاحه. وقد عاش اللبنانيون تجربة حية لذلك، عندما احتل الحزب بيروت خلال ساعات فقط يوم السابع من مايو/أيار عام 2008.
يعرف اللبنانيون أن حزب الله مستعد لحرق البلد عندما يتعلق الأمر بسلاحه. ليس لأنه يخشى من إسرائيل، وإنما لأن تخليه عن سلاحه يعني فقدان إيران لنفوذها الذي بنته على مدار عقود في لبنان وثلاث دول عربية أخرى، في إطار مشروع طائفي يتيح لها الهيمنة على المنطقة وتهديد أمنها، من خلال مليشيات يمكنها أن تمارس جميع أشكال الإرهاب والجريمة المنظمة، ومن خلال فكر إقصائي متزمت يدين بالولاء للمرشد والولي الفقيه أكثر بكثير مما يكن من إخلاص للوطن والمواطنة.
هؤلاء الذين يعتنقون هذا الفكر المتطرف يمثلون الضلع الأخير في ثالوث هيمنة حزب الله على لبنان. فهم من يزودون الحزب بالأفراد الذين يحملون السلاح ليقتلوا أو يهددوا، كما يمدونه بالدعم الإعلامي والمالي واللوجستي والسياسي والانتخابي كلما احتاجه. ولا يهم إن كان هذا الدعم يطيل أزمات البلاد أو يعقد حلها، فأولوية البقاء دائماً هي لإيران و"ثورتها"، ومن ثم تأتي الانتماءات الأخرى "الثانوية" برأيهم.
أمام ثالوث هيمنة حزب الله، تتضاءل فرص الحريري في تشكيل حكومة الاختصاصيين التي يحلم بأن تنقذ البلاد من انهيار اقتصادي محتم. ولا يبدو أن أزمة تشكيل الوزارة بأكملها قد تحل عبر استبدال رئيس تيار المستقبل بزعيم سني آخر، فالمشكلة لا تتعلق بالتكليف أو التأليف، وإنما بالتوقيت. فإن ظفرت إيران بصفقة مع أمريكا، أمرت حزب الله بكف يده عن تشكيل الحكومة، وإن تعثرت مفاوضات فيينا النووية، مضى الحزب بمماطلته إلى أن تشتعل حرب أهلية أو تتفجر كارثة مهولة في البلاد.
ولا ينطوي الحديث عن نشوب حرب أو وقوع كارثة في لبنان على أي مبالغة، حتى إن حزب الله بات يستعد لهذه الاحتمالات في مناطق سيطرته، فيخزن الطعام والوقود ويجمع الأموال اللازمة من أجل مساعدة أنصاره وأتباعه في أيام سوداء قد يمر بها لبنان كرمى لعيون إيران. ولكن السؤال هو هل يملك مشغلي الحزب ما يكفي لتجاوز حرب أو كارثة في لبنان؟ هل يستطيع الحزب احتواء حرب تتوحد فيها الجبهات الداخلية والخارجية ضده؟ وقبل هذا وذاك، هل يملك الحزب تصوراً حقيقياً حول الكارثة التي ستطول المنطقة بأكملها، ومن ضمنها إيران، إن تفجرت الأوضاع في لبنان؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة