يمر لبنان بمأزق وجودي بكل ما تعنيه الكلمة من دلالات.
وما تنطوي عليه من مخاطر على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية . ملامح الخطورة على وجوده كدولة بمفهومها السياسي والاقتصادي تتجلى مع مرور الأيام بصيغ وطروحات تعكس وجود طبقة سياسية غير قادرة على العمل والفعل . بدا في الآونة الأخيرة تقوقع التيارات السياسية تحت متاريسها الحزبية وطروحاتها الضيقة، متمسكة بخياراتها الذاتية على حساب الكثير من الخيارات الملحة على المستوى الوطني الجامع . لجأت بعضها إلى تغييب المصالح العامة لمصلحة مطالب لا تعدو عن كونها مكاسب ذات طابع شخصي أو فئوي أو حزبي .
المفارقة تبدو في أن جميع اللبنانيين، شعباً وتيارات سياسية وحزبية وحتى مسؤولين يتقلدون مناصب رسمية حتى الآن، يقرون بوجود خطر داهم على كيان الدولة اللبنانية ؛ دون العمل ودون السعي المخلص لاجتراح خارطة طريق تمكنهم من معالجة الداء الماثل والانتقال بالبلاد والعباد إلى بر أمان، وبلورة قواسم مشتركة تحافظ على مصالح الجميع تحت سقف لبنان الوطن الجامع ودستوره . مع أن المأزق الراهن ليس الأول في محطات تاريخه منذ قيامه قبل أكثر من ثمانية عقود، لكنه يبدو الأكثر استعصاء، والأشد خطورة على راهنه ومستقبله، وعندما تعجز بعض العواصم العربية والغربية الصديقة للبنان وشعبه في محاولاتها لانتشاله من القاع الذي وصل إليه والأخذ بيده نحو مرافئ الاستقرار المنشود ؛ فإن ذلك يعني وجود قوى داخلية لها مصلحة في تشظية هذا البلد، ومنعه من استكمال عملية استعادة سيادته الوطنية تحت هيبة الدولة ومصالحها العامة .
حين يُجمع المجتمع الدولي على ضرورة مبادرة الطبقة السياسية اللبنانية ذاتها لاتخاذ القرارات اللازمة على طريق تجاوز الأزمة ووضع حد لها والانتقال إلى العمل الفعلي ضمن رؤية وطنية ؛ فإنه بذلك يقطع الشك باليقين بأن مشكلة لبنان وشعبه تكمن في حكامه، وتنبع من زعاماته الحزبية والسياسية والفئوية التي تعمل بوحي مصالحها الضيقة دون اكتراث بالمصلحة العامة، لكن في الآن ذاته يحمل الموقف الدولي عناوين هامة تشير إلى استعداده للوقوف إلى جانب لبنان، وتقديم الدعم في حال سعت السلطة اللبنانية لخلق الظروف الإيجابية والملائمة لعملية النهوض مجددا . المبادرات العربية والدولية تعددت وتنوعت من أجل الأخذ بيد لبنان إلى حالة الاستقرار وكلها لا تحتوي مطالب تعجيزية، ولا تتجاوز حدود ومصالح الفرقاء، ولا تميل لطرف على حساب آخر ؛ بدت كلها معنية ومهتمة بلبنان الدولة والوطن والشعب، بسيادته واستقلاله، لكنها لم تثمر لأن بعض القوى تعمل بوحي مشاريع رعاتها الخارجيين التي لا تستطيع تحقيقها إلا في واحد من خيارين ؛ إما الاستحواذ على الدولة اللبنانية ومقدرات شعبها وتوظيفها لخدمة هذا المشروع، وإما بإبقاء الدولة اللبنانية بهيئة تيارات متصارعة بغياب جامع وطني مشترك، والدفع بالشعب إلى حافة الفقر والجوع، وإبقائه تحت سيف التحديات الوجودية مع ما تحمله من مخاطر على السلم الأهلي والمجتمعي . الشعب اللبناني يمتلك من الكوادر والكفاءات السياسية والاقتصادية والقانونية والدستورية ما يؤهله لأن يعود إلى سابق عهده في تقديم نماذج حضارية ووطنية متميزة لبلده . العقبة الكأداء تتجلى الآن وفي هذه المرحلة بالذات في مفرزات طبقة الحكم بشكليها السلطوي والفئوي الحزبي خاصة لجهة الفساد الذي برزت مفاعيله في مختلف قطاعات الحياة ومرافقها اللبنانية على الملأ، وعمّقتها صراعات الطبقة السياسية وتعارض مصالحها الشخصية في بعضها، والحزبية في بعضها الآخر .
مرّ لبنان بحقب استقرار طويلة مقارنة بمراحل فترات من الصراع الداخلي، وكان بعد كل حقبة صعبة يعود للتعافي بطريقة أو بأخرى بمساندة أشقائه العرب، وبعض القوى الدولية الحريصة على استقراره من جانب، وعلى مصالحها الثقافية والاقتصادية والسياسية من جانب آخر، لكنه اليوم يخوض صراعاً دون بنادق ورصاص، تشتبك فيه مصالح الطبقة السياسية والحزبية انطلاقا من بواعث تعجيزية أحيانا . خطوط التماس في الصراع الجاري جميعها تنذر وتشير إلى أن الضحية هذه المرة ليس ذاك الحزب، ولا هذا الفصيل، ولا تلك القوى، بل إن ما يؤكده الصراع القائم هو أن الضحية هما الشعب اللبناني برمته، وكيان دولته التي نأمل أن لا تتهاوى .
ليس من الواضح حتى الآن إلى أن يتجه مسار الأزمة اللبنانية . الاستعصاء الحاصل في عملية تشكيل الحكومة مبعثه خلافات وصراعات لا تخدم لبنان الدولة ولا الشعب الذي عبر بكل ما أوتي من وسائل وأساليب ومواقف عن رفضه لاستمرار إدارة بلده بعقلية الطوائف، وقدم تضحيات مشهودة في سعيه لطي صفحات تلك السنين، والانتقال إلى دولة وطنية تحت سقف القانون والدستور الذي يرعى مصالح الجميع بعيدا عن المحاصصات الطائفية والحزبية .
الوقت لا يعمل لمصلحة لبنان الدولة والشعب، الوضع الاقتصادي كارثي، مؤسسات البلاد شبه عاجزة عن إدارة شؤونه، استنزاف مدخرات الناس مستمر، الآفاق مسدودة وأحياناً معدومة أمام الناس على مختلف الصعد، الطبقة السياسية تحولت إلى تيارات وقوى متقوقعة على أطرها الذاتية بدل التخطيط بشكل تشاركي للخروج من الأزمة – المأزق، المجتمع الدولي مصمم على وجوب تشكيل حكومة وطنية جامعة تتجاوز معضلة التمثيل الحزبي وتعتمد على الكفاءات حتى ينتقل إلى مرحلة الدعم الاقتصادي لإنقاذ لبنان . لبنان أمام امتحان وجودي حقيقي ؛ إما أن يصل سياسيوه وزعاماته إلى كلمة سواء ويجترحون حلولاً إسعافية تمنع الانهيارات الكبرى التي تلوح في الأفق، وإما المجهول ومفاجآته غير السارة على الأغلب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة