حدثنا القرآن الكريم عن نفسه أنه أُنزل في شهر رمضان.
حدثنا القرآن الكريم عن نفسه أنه أُنزل في شهر رمضان وذلك بقوله جل شأنه: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} والمراد بداية تنزله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال سبحانه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} والمراد بهذا التنزُّل التنزل الجُمَلي من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا كما جاء عن ترجمان القرآن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ليبدأ التَّنزُّل التدريجي بحسب الوقائع والأحداث والحاجة إلى التشريع، وإجابة السائلين، وكان أول تنزُّل من هذا الكتاب المبين في ليلة القدر بصدر سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ليكون فاتحة الغيث المدرار للبشرية التي كانت قد أقحلت من غيث السماء الذي يحي القلوب الميتة، ويهدي العقول الضالة، ويأخذ بأيديها إلى صراط الله العزيز الحميد، وقد ذكَّرنا الله تعالى بأن هذا الذكر الحكيم أُنزل في شهر رمضان ليوحي أن على أهل القرآن الالتفات إليه فيعطوه نصيبا وافرا من أوقاتهم تلاوة في القيام، وفي وقت الصيام، وفي الليل والناس نيام، وأن يتلفتوا إليه قراءة وتدبرا واتعاظا وعملا وتمثلا له في السلوك كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد كان خلقه القرآن، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان على خلق عظيم، فكانت أخلاقه العظيمة تتمثل القرآن في الواقع السلوكي، فمن أراد أن يعرف عظمة أخلاق القرآن يراها ماثلة في شخصه عليه الصلاة والسلام، فكل ما قرأ القارئ خلقا من أخلاق القرآن الكثيرة التي تبلغ نحو ربع القرآن عددا، رأى تطبيقها في شمائل النبي عليه الصلاة والسلام.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل القرآن كان له في شهر تنَزُّله عنايةً به أيَّما عناية، وبلغ من عنايته بالقرآن في هذا الشهر العظيم أنه لم يكتف بما يتلوه على أصحابه رضي الله عنهم، أو ما يتلوه في نفسه أو في صلوات فرائضه ونوافل ليله، بل كان يدارسه سفير الوحي، جبريل عليه السلام فكان ينزل نزولا خاصا لهذه المدارسة، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، يلقاه كل ليلة يدارسه القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل، أجودَ بالخير من الريح المرسلة" وفي رواية " وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"
يفعل ذلك في هذا الشهر خاصة لما لمناسبة الحدث من أحقية الذكر وواجب الشكر، وهو بذلك يدعو أمته لتستن به فيه فتجعل هذا الشهر الكريم شهرا خاصا بالقرآن الكريم، فتتفرغ له تفرغا يعز نظيره في الأشهر الأخرى، وهو ما فهمه السلف الصالح فطبقوه، فكان بعضهم في هذا الشهر يختمه في أسبوع، وبعضهم في ثلاث ليال، وبعضهم في كل يوم وليلة، وبعضهم يختم في الليل ختمة وفي النهار أخرى، وبعضهم يختمه في ركعة، كما بين ذلك كثير من أهل العلم منهم الإمام النووي في كتابه المختصر المفيد" التِّبيان في آداب حملة القرآن" وكان أهل العلم من محدثين وفقهاء إذا جاء هذا الشهر أقبلوا على القرآن وتركوا حلقاتهم، كما كان من إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وأدركنا عليه بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى.
ولا ريب أن يكون السلف الصالح بهذه العناية في كتاب الله تعالى بهذا الشهر خاصة فإنهم عرفوا مراد الله تعالى من إخباره بتنزيل القرآن في هذا الشهر، وأنه ليس مجرد خبر، بل إشارة لمن اعتبر، كما علموا أن عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدارسة جبريل للقرآن الكريم في هذا الشهر لها دلالتها في التأسي، فأجهدوا أنفسهم وأمدهم الله تعالى ببركة الوقت فاتسع قليله لكثير من العمل كما قال ابن عطاء الله في الحكم: "رب عمرٍ اتسعت آمادهُ وقلًّت أمداده، ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده" يعني رب عمر طويل لكن لم يكن فيه نفع، ورب عمر قصير كثر فيه النفع، نسأل الله تعالى أن يبارك في أوقاتنا وأعمارنا وأعمالنا، وأن ينفعنا ويرفعنا بالقرآن الكريم، بمنه وكرمه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة