لبنان.. رحيل مفهوم المزرعة واسترداد مقومات الوطن
شرارة الانتفاضة الشعبية اشتعلت بسبب ضريبة إضافية لكنها قصمت ظهر البعير فنزل اللبنانيون إلى الشارع في ثورة تجاوزت الطائفية والمذهبية.
من أهم دروس الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في 13 أبريل/نيسان عام 1975 واستمرت 15 عاما مثقلة بالضحايا والتهجير والانقسامات الدموية، أن ضمانة اللبناني لا تتحقق إلا بالانصهار الوطني مع أخيه اللبناني.
وتحقق ذلك بأن تفتح وعي اللبناني على أنه لم يكن سوى أداة يستخدمها أمراء المليشيات تحت ستار الطائفية أو المناطقية أو المذهب ليبسطوا سلطانهم وليغطوا ارتباطاتهم الخارجية وليكدسوا ثرواتهم المالية بالتكافل والتضامن فيما بينهم وعلى حساب الوطن الذي حولوه إلى مزارع انفصالية.
وعندما جاء اتفاق الطائف عام 1989 كحل عربي للأزمة اللبنانية بجهود خليجية ومصرية، استبشر اللبنانيون خيرا خاصة عندما أصبح هذا الاتفاق دستورا جديدا للبنان يؤكد وحدة الأرض والشعب وينهي الاقتتال ويحل المليشيات ويحدد توزيع السلطات بعدالة ويضع جدولا زمنيا مدته سنة واحدة لإلغاء الطائفية السياسية.
لكن هذا الأمل بالخير سرعان ما تبدد حينما تجمع أمراء المليشيات داخل السلطة ليشكلوا، وأيضا بالتكافل والتضامن، طبقة حاكمة توافقت على إنتاج نظام خاص فيما بينها يخالف نصوص الدستور ويضمن لها تقاسم الموارد والمال العام والسلطة المناطقية والحصص النيابية والوزارية.
كما عمل هؤلاء على تعطيل الكثير من بنود الطائف وفي مقدمتها تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس شيوخ وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحصين الاقتصاد بمشاريع إنتاجية صناعية وزراعية.
وأبقت هذه الطبقة على تغذية العصبيات الطائفية والمذهبية لتغطية ارتكاباتها ومكاسبها ما أشعر غالبية اللبنانيين بأن الحرب الأهلية التي انتهى تقاتلها على الأرض استنسخت ذاتها داخل طبقة حاكمة تواصل تجديد مفاهيمها فوق كراسي الحكم.
هذا الانفصام المصطنع بين الدستور الوطني وبين النظام المبتدع للطبقة الحاكمة في لبنان كان طبيعيا أن يورث المواطن اللبناني خيبة أمل متواصلة وإمعانا في الإفقار العام وتهاويا للطبقة الوسطى وبدأت أسئلة كبرى تسيطر على عقل المواطن وأبرزها:
إذا كانت دول الخليج قدمت للبنان طيلة 30 سنة ما يتجاوز 20 مليار دولار فأين أنفقت ولماذا لم يتم إنشاء مشروع واحد إنتاجي؟
لماذا يجبر اللبناني على الحرمان من الكهرباء وعلى دفع فاتورة أربع أو ست ساعات فقط بأكثر من مئة دولار؟ واستطرادا لماذا رفضت الطبقة الحاكمة مشروعا لبناء محطة كهرباء قدمته مصر وآخر قدمته ألمانيا بشروط ممتازة وأصرت على استئجار بواخر تركية لمدة عشر سنوات بكلفة الضعفين عن تكلفة بناء المحطتين؟
لماذا تبقى الجمارك ومواردها الضخمة تحت سيطرة جهة بعينها وتحرم منها خزينة الدولة؟ ولماذا تؤجر هذه الطبقة 420 ألف متر مربع لأحد أطرافها (ملعب الجولف على حدود بيروت) مقابل دولار واحد سنويا ومبنى A.T.C.l بمساحة 90 ألف متر مربع مقابل سنت واحد فقط سنويا؟
ولماذا لا يدفع مصرف لبنان لخزينة الدولة 80 بالمئة من أرباحه حسب القانون ويكتفي بدفع خمس هذا المبلغ من دون محاسبة أو سؤال؟ وأين هي أملاك الدولة البحرية ورسوم مخالفات المرور وأرباح الكازينو التي لا يصل للخزينة قرش منها؟
وفي المقابل توضع سياسات اقتصادية تفرض ضرائب كبرى على المواطن المحروم من الكهرباء والماء والاستشفاء ومع هجرة أبنائه بمعدل 40% ووصول 50% من الشعب إلى ما دون الفقر ووفاة أطفاله على أبواب المستشفيات وتسجيل أكبر نسبة من الإصابة بأمراض السرطان بين صفوفه وحرمان قطاع واسع من حق العمل والتعليم؟
المواطن اللبناني يقول إن بلده ليس فقيرا ليركض حكامه إلى عواصم العرب والعالم لاستجلاب القروض والمساعدات فما يحتاج إليه فقط هو نزاهة الإدارة في تحصيل موارده وهي أكثر بكثير مما ستعطيه إياه مؤتمرات سيدر وأصدقاء لبنان وسواها، لكن على من يقرأ داود اللبناني مزاميره؟
شرارة الانتفاضة الشعبية اشتعلت بسبب ضريبة إضافية صغيرة لكنها قصمت ظهر البعير ففتح اللبنانيون كل الملفات، ونزلوا بها إلى الشارع في ثورة حقيقية تجاوزت العصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية والحزبية ليزيلوا هذه المرة آثار الحرب الأهلية بالكامل وليطالبوا بإسقاط نظام الطبقة الحاكمة كلها سواء منها التي تاجرت بالأديان أو بالمقاومة والتحرير ما زلزل عروش المتحكمين في كل لبنان الذين أصيبوا بصدمة حقيقية وهم يشاهدون ما سبق واعتبروه خزانا بشريا خاصا لهم يتشقق وينساب من بين أيديهم غير عابئ بشحناتهم التي تسابقوا لبثها وشعاراتهم المكررة بحقوق الطوائف أو المقاومة والممانعة، فسقطت الأقنعة عن الجميع وسحبت الشرعية من الجميع، وهو ما يفسر مسارعتهم كلهم لمساندة بعضهم البعض.
الشعب يطالب بإقالة الحكومة وتشكيل حكومة مصغرة من الاختصاصيين برئاسة قاض نزيه ومستقل تتحفظ على أموال الناهبين وتستردها وتحضر لانتخابات نيابية مبكرة على قاعدة الدائرة الواحدة وبأسلوب النسبية.
وهذا المطلب شكل صدمة أخرى أصابت أركان الطبقة الحاكمة وما تلاها من رفض المواطنين لأوراقهم الإصلاحية، ما جعلهم يتوجهون إلى مرحلة تهديد الحراك الشعبي العارم تارة بتوجيه الاتهامات بالتمويل والعمالة وطورا بإرسال بعض مشاغبيهم لإثارة المشاكل أو بالتهديد المسلح لكن فاتهم أن ما تحقق حتى الآن كفيل بانكشاف مشروع الطبقة الحاكمة وسقوطه ومن دون عودة إلى الوراء.
فمن اعتقد أن لبنان أصبح في جيبه وأنه يتحكم بسلطاته مثل مليشيا حزب الله أو التيار العوني أو القوات اللبنانية وغيرها، بات هو المتراجع إلى الوراء ولم يعد بوسعه تحضير ملفاته لانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة وكأنها صارت من حقه وضمانة لاستمراره.
كلهم سقطوا.. يعني كلهم.. ولبنان بعد ثورة شعبه لن يعود كما كان قبلها.. الوجوه انكشفت والستائر أسدلت..