وسط هذه التجاذبات بين روسيا وتركيا في ليبيا تصبح مهمة الأمم المتحدة في إحلال السلام هناك صعبة جدا
يتمدد الروس في ليبيا بحذر شديد، يدرسون خطواتهم جيداً، ليثبتوا أقدامهم ويضمنوا حضوراً طويل الأجل هناك، هم يخشون مكيدة غربية تخرجهم من البلاد كما حدث عام 2011، عندما أطاح حلف الناتو بنظام العقيد معمر القذافي الذي فتح أبواب ليبيا أمام الاقتصاد والسلاح الروسيين.
وسط هذه التجاذبات بين روسيا وتركيا في ليبيا تصبح مهمة الأمم المتحدة في إحلال السلام هناك صعبة جداً، ثمة تجربة مشابهة لهذه التجاذبات في سوريا، تقول إن الروس يجيدون التقاط الفرص والأتراك يتقنون الابتزاز، تدرك الدول التي تدور في فلك الأزمة الليبية هاتين الحقيقتين
يدعم فلاديمير بوتين الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر منذ أن بدأ عمليات تحرير مدن ومناطق البلاد من الإرهاب، وعندما بدأ حفتر زحفه باتجاه طرابلس بقي الروس سنداً له، في حدود مؤازرة لا تختلف في سريتها عن دعم الفرنسيين والألمان والأمريكيين لحفتر، والأتراك لمليشيات طرابلس.
للروس والجيش الليبي عدو مشترك هو الإرهاب الذي يتمثل بالدواعش الذين قدموا من سوريا بمساعدة تركية كما تحدثت تقارير عربية وغربية كثيرة، والأذرع العسكرية لتنظيم الإخوان المسلمين التي باتت تصادر الحياة في العاصمة طرابلس، وتُسَخِرُ موارد البلاد كلها لصالح التنظيم والراعي التركي له.
المعايير الروسية للتطرف تلتقي مع معايير الجيش الليبي، ومعايير العديد من الدول العربية والغربية التي تساند هي الأخرى حفتر وقواته. ليس رفضا لحكومة الوفاق التي أفرزها اتفاق الصخيرات عام 2015 واعترفت بها الأمم المتحدة، وإنما اعتراض على الارتهان الذي باتت تعيشه هذه الحكومة للإخوان.
هذا الارتهان هو ما فتح أبواب طرابلس أمام الأتراك، تماماً كما مهد الإخوان لهيمنة رجب طيب أردوغان على قطر، وباركوا عدوان الجيش التركي على الشمال السوري، لا تنتهي خطط الجماعة هنا، فهم يحاولون الضرب بسيف تركيا في دول عربية عدة، مستغلين بذلك الأطماع الخارجية للسلطان العثماني.
تبدو هذه المعادلة واضحة كثيرا للروس، كما أن موسكو تجمعها علاقات جيدة مع دول عربية وغربية تعتبر أن التمدد التركي باتجاه الضفة الأفريقية للبحر المتوسط ينطوي على مخاطر ليس آخرها وباء الإسلام السياسي، دول مثل مصر والإمارات والسعودية واليونان وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وغيرها.
صحيح أن الروس يمتلكون علاقات جيدة مع الأتراك، ويرتبطون معهم بتحالف أكبر من تعاونهما في الملف السوري، ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال تنازل موسكو لأنقرة في ليبيا، ولا يعني أيضاً أن بوتين يحتاج إلى المهادنة مع أردوغان في شمال أفريقيا، سعياً وراء مزيد من المكاسب في شمال سوريا.
في القمة المرتقبة للرئيسين الشهر المقبل سيحمل بوتين أوراقاً أكثر قوة في الملف الليبي، من بينها أن الأوروبيين يعولون على الروس لإنجاح مساعي وقف الحرب في ليبيا، ومن بينها أيضاً أن البرلمان الليبي، ومعه دول في المنطقة والعالم، يحشدون كل تأييد ممكن لسحب الاعتراف الأممي بحكومة السراج.
إعلان الرئيس الروسي موافقته على المبادرة الألمانية لوقف الحرب في ليبيا، يقول إن موسكو تتعامل مع الملف الليبي تحت عنوان واحد هو ضمان وجود دائم لها في هذه البلاد، ليس على حساب طرف محلي أو خارجي بالضرورة، ولكن يجب أن يكون محصناً من انقلاب الغرب على الروس هناك مستقبلاً.
لا يزال الروس يشعرون بالندم على عدم رفعهم الفيتو في وجه التدخل العسكري الذي أسقط القذافي في 2011، لن يسمحوا لأحد بتهميشهم في ليبيا مجدداً، ولكن ذلك لا يعني أنهم يريدون مواجهة مع العالم، أو يسعون لمناكفة غير مجدية ومكابرة تغلق عليهم أبواب التفاهم مع الأوروبيين والأمريكيين.
يحسن الروس استغلال الأزمات التي تعيشها دول عربية كبوابات لتعزيز حضورهم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما يتقنون نسج العلاقات مع دول المنطقة المؤثرة في السياسات العربية والدولية عموماً، هذه الدول التي أدركت أن الجمع بين روسيا والغرب في علاقاتها الخارجية لم يعد مستحيلاً.
المتغيرات التي سمحت بهذا الجمع تتمثل في شيئين رئيسيين. الشيء الأول هو تغير أولويات السياسة الأمريكية بالمنطقة العربية، خاصة في زمن الرئيس دونالد ترامب، تراجع الزخم الأمريكي في ملفات وأزمات المنطقة، فتلقف الروس الفراغ الحاصل وملأوه بحضورهم العسكري والاقتصادي والسياسي.
الأمر الثاني هو تغير معايير الأوربيين في تصنيف الدول بين عدو وصديق، توقفوا عن اعتبار روسيا الشيطان الأكبر واختاروا الحوار بدلا من المواجهة معها، فانفتحت أبواب التعاون بينهم وبين موسكو على مصراعيها، وكان من ثمرات ذلك اتفاق وقف إطلاق النار شرق أوكرانيا، الذي أبرم مؤخرا في باريس.
وبينما تراجعت روسيا في قائمة أخطر الدول على الاتحاد الأوروبي، تصدرت تركيا قائمة أكثر الدول إزعاجاً للتكتل وابتزازاً لدوله. ومع مغامرات مثل التي تقوم بها أنقرة في المتوسط، وربما لن يكون آخرها الاتفاق مع حكومة فايز السراج في ليبيا، تتحول عضوية تركيا في الناتو إلى عبء يثقل كاهل الأوروبيين.
حتى الولايات المتحدة الأمريكية التي أطلقت العنان لترامب في شمال سوريا مؤخراً، لا يريحها كثيراً الحضور التركي في ليبيا، لا يريحها التمدد الروسي هناك أيضاً، ولكن واشنطن وموسكو تدعمان الطرف ذاته، كما أن الولايات المتحدة باتت تراعي مؤخراً نفور الأوروبيين من رعونة أردوغان وابتزازه المستمر لهم.
وسط هذه التجاذبات بين روسيا وتركيا في ليبيا تصبح مهمة الأمم المتحدة في إحلال السلام هناك صعبة جداً، ثمة تجربة مشابهة لهذه التجاذبات في سوريا، تقول إن الروس يجيدون التقاط الفرص والأتراك يتقنون الابتزاز، تدرك الدول التي تدور في فلك الأزمة الليبية هاتين الحقيقتين، وتدرك أيضاً أن الاحتمالين اليتيمين للصراع في ليبيا وفق هذه التجاذبات، هما إما أن تتمكن موسكو من فرض حل خصوم السراج للأزمة، وإما أن تتحول طرابلس إلى ورقة ابتزاز جديدة يمتلكها أردوغان الإخوان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة