ما الذي تسعى إليه تركيا في ليبيا؟
التمادي التركي والذي عبر عنه أردوغان مؤخرا بمزيد من التشدد، يؤكد حقيقة أن الاستراتيجية التركية تسعى لتثبيت وضع راهن في المنطقة
أعلنت تركيا أنه تم توقيع مذكرتي تفاهم ما بين رئيس المجلس الرئاسي الليبي فايز السراج والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تتضمنتا اتفاقا أمنيا وعسكريا واتفاقا بحريا، المذكراتان تحدثتا عن حرية تركيا في استخدام المجال الجوي الليبي، وإقامة القواعد العسكرية دون استئذان السلطات الليبية، وكذلك حماية الحقوق البحرية للبلدين بما يعني اقتسام المنطقة البحرية الخالصة.
التفاهم الليبي التركي على النحو السابق تضمن إجراءات جديدة أهمها ما يلي:
• تطوير التعاون العسكري والذي سبق الاتفاق عليه من خلال اتفاقية اطارية للتعاون العسكري الموقعة بين البلدين، وفي الحقيقية أن ما ورد بها يمثل نوعا من التقنين لما يجري بين البلدين على هذا المستوى ووضعه في إطار قانوني، فتركيا متورطة في دعم عسكري يتجاوز كل قرارات الأمم المتحدة الخاصة بحظر التسليح على الأطراف الليبية ومحاولة تقنين هذا التورط.
• ارتبط تطوير التعاون بين تركيا وليبيا في هذا التوقيت بتراجع قدرات حكومة الوفاق في الميدان العسكري في مواجهة الجيش الوطني الليبي، ومحاولتها استدعاء مزيد من الحضور التركي في المواجهة العسكرية، وبالتالي الاستعداد لتقديم أية تنازلات كثمن لتحقيق ذلك.
• ما ورد بخصوص التعاون البحري أو تحديد الحدود البحرية للطرفين يمثل محاولة تركية للتشويش على الاتفاقات البحرية التي وقّعتها كل من مصر وقبرص واليونان، وتجاهل كل اعتبارات القانون الدولي للبحار، خاصة ما يتعلق بعمليات اقتسام النفوذ وتحديد الحدود البحرية للبلدان المتشاطئة، ومحاولة فرض نوع من الأمر الواقع، واستثمار ذلك مستقبلا في تحقيق مكاسب أو امتلاك أوراق للمساومة مع الأطراف الأخرى.
في إطار ما جرى نُشير إلى عدد من الاعتبارات التي يمكن أن تكشف عن الاستراتيجية التركية، ليس فقط في منطقة شرق المتوسط، ولكن على مستوى المنطقة بصفة عامة، وأهمها الاعتبارات التالية:
1- إن قضية الطاقة والغاز بالتحديد قضية استراتيجية بالنسبة لتركيا ليس فقط لحاجتها إلى الطاقة وتغطية احتياجاتها المتزايدة بهذا الخصوص والتي تستنزف جزءًا كبيراً من ميزانيتها، ولكن سعيها لأن تكون نقطة ارتكاز ما بين مناطق استخراج الغاز في المناطق الغنية في شرق المتوسط بالتحديد وبقية دول المنطقة والسوق الأوروبية المتعطشة لهذا الغاز، ولتكون نقطة الارتكاز الأساسية على هذا المستوى.
2- الانزعاج التركي الكبير من نجاح مصر في صياغة كيان إقليمي بدأ يحظى بمساندة دولية، وهو منتدى غاز شرق المتوسط، وسبق ذلك بلورته لاتفاقيات لتحديد وتعيين حدودها البحرية مع الدول المتشاطئة معها خاصة قبرص واليونان، وهو ما حدد منطقتها الاقتصادية الخالصة التي يتعين على الدول الإقليمية خاصة تركيا احترامها والتعامل مع مصر طبقا لهذه الاتفاقيات.
3- تركيا ليست دولة متشاطئة مع ليبيا، والحديث عن حدود بحرية مائلة بين البلدين نوع من اللغو يفتقد للسند القانوني والاعتبارات الدولية، ومحاولة للتدخل في المناطق الاقتصادية الخالصة لدول الجوار، وتجاهل جزيرة كريت التي تفصل المياه التركية عن الليبية، كما أن الادعاء التركي بالمشاطأة المائلة البحرية مع ليبيا – حتى بافتراض ذلك- يتعلق بالمنطقة الشرقية من ليبيا التي لا تسيطر عليها حكومة الوفاق.
4- تدرك تركيا أن ليبيا لا تزال تقع تحت الفصل السابع لمجلس الأمن، وبالتالي فإن المجلس الرئاسي ليس لديه الصلاحية لتوقيع اتفاقيات تحدد مستقبل ليبيا، كما أن البرلمان الليبي المُعترف به يرفض الاتفاقيات من الأساس، ورغم ذلك فإن التمادي التركي والذي عبر عنه أردوغان مؤخرا بمزيد من التشدد يؤكد حقيقية أن الاستراتيجية التركية تسعى لتثبيت وضع راهن ينطلق منه لمزيد من الإجراءات اللاحقة التي تُجسد هذا الواقع في مزيد من الحضور التركي والمكاسب الإقليمية.
5- تعتبر ليبيا هدفاً رئيسياً ليس لأردوغان وحده ولكن لحزب العدالة الحاكم، على اعتبار أن حكومة الوفاق، والتي تعمل تحت تنظيم الإخوان الإرهابي الذي يحظى بنوع من الاندماج والتحالف مع ذلك الحزب ويستثمره أردوغان كإحدى الأدوات لاستعادة الإمبراطورية العثمانية، وعلى اعتبار أن ليبيا بما تحويه من احتياطات بترولية ومجالات لشركات الإعمار التركية، سوف تبقى هدفاً رئيسياً لتركيا.
6- لا بد من التأكيد على أن السلوك التركي يتماشى مع السياسة التركية العدائية تجاه مصر منذ ثورة 30 يونيو، وإقصاء الإخوان في مصر من خلال السعي للتمركز في مناطق تمس الأمن المباشر بالنسبة لمصر، خاصة في ليبيا، ومع التحرك التركي في شرق المتوسط وأفريقيا وقرب منابع النيل.
وفي الإجمال، فإن الحركة التركية على المستويات السابقة سوف تتواصل، وإن كان من الصعب اتخاذ إجراءات فيما يتعلق بتحديد الحدود البحرية واقتسام مناطق النفوذ بين ليبيا دون التصادم مع اليونان، الأمر الذي سيجعل من الاتحاد الأوروبي طرفاً في هذه المواجهة، وفي التقدير أيضاً أن تتجنب تركيا التصعيد مع مصر أو المساس بحقوقها على هذا المستوى في تلك المرحلة، وإن كان حضورها العسكري المتزايد في ليبيا سوف يؤدي إلى مزيد من التصعيد العسكري، ويؤثر سلبا على الجهود المبذولة للوصول إلى حل سلمي ويُعقّد من تسوية الأزمة، ويفرض ضرورة قيام مصر بمبادرات إقليمية تُحاصر الاستراتيجية التركية بمشتملاتها للحفاظ على الأمن القومي المصري.