تحرك الدول العربية كمصر والسعودية لإعادة ضبط الأوضاع في المشهد الليبي مهم وضروري، ويأتي في إطار ثوابت الأمن القومي العربي
كان طبيعيا أن تثار تساؤلات متعددة بشأن مسارات التعامل مع الشأن الليبي بعد طرح القاهرة لمبادرة جديدة وتأييد بعض الدول العربية، وعلى رأسها دولة الامارات العربية والسعودية لمضمونها، مع التأكيد على خيارات الحل السياسي التدرجي والمرحلي وإعادة بناء خريطة طريق كاملة العناصر للتعامل مع التطورات الجديدة في مسرح العمليات، خاصة وأن الجانب التركي ما زال ساعيا لتغيير قواعد وأسس المعادلة السياسية والاستراتيجية، وإعادة بناء استحقاق أمني واستراتيجي جديد بدفع حكومة السراج للاستمرار في خيارها العسكري وتوظيفه من خلال تفعيل دور التنظيمات الإرهابية العاملة معه في غرب ليبيا .
طالبت المبادرة المصرية بضرورة التعامل مع هذه التنظيمات، وتفكيك وجودها ونزع سلاحها، وهو أمر يحتاج إلى توافر الإرادة السياسية والاستراتيجية للأطراف الدولية بصرف النظر عن الردود الإيجابية من قبل روسيا والولايات المتحدة وفرنسا على المبادرة المصرية، والتي طالبت بضرورة التعامل معها ودعوتها لتكون أساسا للحل بدلا من استمرار المعضلة الليبية على حالها، في ظل غياب المرجعيات الحاكمة، وانهيار الاستحقاقات السابقة بما فيها مسار برلين، مع التأكيد على أن المرجعيات المحتملة لإدارة الملف التفاوضي ستكون سياسية وعسكرية في آن واحد .
ما تحتاجه المبادرة الراهنة هو ضرورة أن يكون هناك موقف محدد من بعض دول الجوار الإقليمي التي تحفظت على بنودها.
وبالتالي فإن المبادرة تجدد في مضمونها العام مرجعيات المفاوضات السابقة، وتحيي فكرة التفاوض على أسس واقعية بدلا من رفض كل طرف مرجعية دون أخرى، فاتفاق الصخيرات لم يعد له وجود أصلا، كما أن مسار برلين يحتاج لتصويب من قبل الأطراف المعنية، وفي ظل توافقات محددة متعارف عليها، ومن ثم فإن المبادرة المصرية طرحت في سياقات مهمة، وتوقيتات مناسبة خاصة مع استمرار العمل العسكري المدعوم تركيا، وبصورة كبيرة خاصة وأن الجانب التركي لن يتراجع فعليا إلا من خلال ضغط دولي مباشر، ومن خلال دور روسي حاكم وتوافقات فرنسية إيطالية أمريكية، وبدون ذلك فان المخطط التركي سيستمر على حاله وسيعمل وفق مخطط سياسي واستراتيجي، ولن يقبل بالعودة عن نهجه خاصة وأن الخطاب السياسي والإعلامي للرئيس أردوغان بات محصورا في الإعلان عن الدعم المفتوح سياسيا وعسكريا، وهو ما يعني أن أي تراجع لن يتم بدون حسابات استراتيجية، وتوازنات حقيقية مرضية للجانب التركي، مع التقدير بإمكانية تكرار تجربة تركيا روسيا في سوريا، والتي قد تكون واردة في ظل سيناريوهات أخرى مفتوحة، وفي ظل حسابات دقيقة تربط كل طرف بحسابات مهمة يمكن استثمارها بقوة، والإشارة إليها في ظل تقييمات مستجدة .
ما تحتاجه المبادرة الراهنة هو ضرورة أن يكون هناك موقف محدد من بعض دول الجوار الإقليمي التي تحفظت على بنودها، وأن تكون الأهداف العربية واضحة من حلحلة المشهد الليبي ووضعه على رأس الأولويات خاصة مع تباين الرؤى والمواقف جراء السياسات التركية ،واتصالاتها المكثفة وغير المعلنة مع الأطراف المعنية خاصة في المنطقة المغاربية، وهو ما يتطلب تحركا حقيقيا وموازيا من الجامعة العربية وأمينها العام للعب دور حقيقي وفاعل للتأكيد على الخيارات العربية في الملف الليبي بكل تعقيداته، ومع الجزائر تحديدا خاصة وأن حدث القمة العربية المؤجل ما زال قائما بصرف النظر عن عدم انعقاد القمة العربية بسبب أزمة كورونا، وبالتالى فإن إيجاد ظهير عربي حقيقي سيدفع بقوة للتعامل مع مستجدات الملف الليبي بأكمله، والوقوف في مواجهة التحركات غير المشروعة في الملف الليبي، والتي تمتد إلى منطقة شرق المتوسط حيث الصراع على الغاز، وحيث الاتفاقيات المخطط لها لبناء هندسي جديد وفقا لحسابات كل طرف، وفي ظل معادلة منضبطة من المصالح الفردية والجماعية.
ومن ثم فإن الملف الليبي قد يكون ضمن ملفات أخرى تدخلها أطراف عربية وإقليمية أخرى، ومنها إسرائيل وتركيا إقليميا وروسيا والولايات المتحدة دوليا إضافة لحسابات بعض الدول الأخرى في النطاق المتوسطي، ومنها فرنسا وإيطاليا، وهو ما يؤكد على أن ما يجري في ليبيا جزء من كل، وأن الأطراف العربية المختلفة لديها طموحات كبيرة وأن الجانب التركي سيستميت في الدفاع عن مصالحه عبر وسائل معلومة ومعروفة، من توظيف ورقة المرتزقة من جانب وإرسال جنود جدد من الجيش التركي في وقت لاحق، استنادا لدعم البرلمان التركي الذي منح أردوغان موافقته على هذا الأمر، وبالتالي يجب فهم أن ما جرى في قاعدة الوطية مخطط مبدئي للوصول إلى ترهونة، ومنها إلى مناطق التماس الاستراتيجي والبدء لاحقا في تفاوض عام ومفتوح حول أسس جديدة للحل ربما على قاعدة تفاوضية خارج مسار برلين أو جنيف، وإيجاد مسار سياسي وأمني جديد يمكن البدء به والعمل من خلاله .
لهذا فإن تحرك الدول العربية كمصر والسعودية لإعادة ضبط الأوضاع في المشهد الليبي مهم وضروري، ويأتي في إطار ثوابت الأمن القومي العربي وفي ظل ما يحاك وتخطط له تركيا بهدف تغيير زاوية الحل واستمرار أمد الصراع بحثا عن موضع قدم في المنطقة المغاربية بأكملها، وهو ما سيكون مرشحا بقوة في الفترة المقبلة في ظل استراتيجية تركية واضحة تستهدف الوصول إلى مناطق جديدة في المنطقة المغاربية ومنها إلى جنوب الساحل والصحراء، ومرورا بمنطقة القرن الإفريقي وشرق أفريقيا.
سيظل التحرك العربي بالأساس منطلقا لكل أسس الحل الشامل في ليبيا مع التركيز على الأفق السياسي الحقيقي الذي أقرته المبادرة المصرية مؤخرا، مع التوقع باستمرار الإشكاليات التركية، وسيبقى للأطراف الروسية والأمريكية - إن خلصت النوايا- تأثير مهم في ممارسة دور حقيقي في الداخل الليبي اعتمادا على استراتيجية قد تكون مطروحة بقوة في إطار لعبة المقايضات السياسية مع اعتبار ليبيا جزءا رئيسيا من المعادلة الصعبة في الإقليم بأكمله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة