الأمر الذي لا شك فيه هو أن إرسال قوات تركية إلى ليبيا سيشكل تهديدا خطيرا للأمن القومي العربي برمته ولدول الجوار الليبي تحديدا
لا يبدو أن معاناة تركيا من المغامرات غير المحسوبة لرئيسها رجب طيب أردوغان ستتوقف، فالرئيس التركي الذي تسيطر عليه أوهام العظمة، وإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية البائدة، لا يكاد يخرج من مغامرة حتى يدخل في مغامرة أخرى جديدة تضر باستقرار بلاده واقتصادها قبل أن تضر باستقرار الدول الأخرى وأمنها، فمن مغامرة إسقاط الطائرة الروسية التي وجد أردوغان بعدها نفسه مُرغما على التراجع أمام الضغوط الروسية الاقتصادية والسياسية والأمنية القوية على بلاده، ليرتمي بعد ذلك في حضن الدب الروسي ويقدم التنازلات تلو الأخرى، إلى مغامرة التدخل العسكري في سوريا والتي كلفت تركيا الكثير اقتصاديا وأمنيا قبل أن تستسلم للأمر الواقع وتراجع حساباتها وتنسق مع حلفاء دعموا عدوها اللدود في سوريا وهو نظام الأسد، ومغامرتها المستمرة في دعم تنظيمات الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة، ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين، والتي توترت علاقاتها بالعديد من القوى الإقليمية والدولية، ووصمتها بدعم الإرهاب والتطرف، وأخيرا مغامرتها في ليبيا ودعمها للمليشيات المتطرفة هناك بالأموال والأسلحة والطائرات من دون طيار، وهو الأمر الذي حاولت أن تضفي عليه قدر الشرعية من خلال توقيع مذكرات تفاهم أمنية وبحرية مشكوك في شرعيتها مع رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج.
إن إمعان تركيا أردوغان في سياسات التوسع وتهديد الجيران لن يحقق لها أي مكاسب سوى تعزيز مشاعر الكراهية والعداء لها في أوساط الشعوب العربية، وعلى تركيا أن تستفيد من خبرات القوى الإقليمية الأخرى التي حاولت انتهاج السياسات نفسها، وأصبحت اليوم تعاني داخليا وإقليميا.
المغامرة الأردوغانية في ليبيا قد تأخذ مسارا أكثر خطورة إذا أقدمت الحكومة التركية على تنفيذ تعهداتها بإرسال قوات تركية إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني، ومنع سقوط العاصمة طرابلس بيد قوات الجيش الوطني الليبي، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى توريط الجيش التركي في المستنقع الليبي، ويدفع بالأزمة الليبية إلى مزيد من التدويل والتعقيد؛ لأن هذا التدخل قد يحفز دولا أخرى على التدخل العسكري في ليبيا لمنع سقوطها في دائرة الهيمنة التركية.
الأهداف التي يسعى إليها أردوغان من خلال تصعيد تدخل بلاده في الأزمة الليبية تبدو واضحة لكل متابع، وعلى رأسها محاولة فرض بلاده كطرف مؤثر في صياغة أي ترتيبات سياسية مستقبلية للأوضاع في ليبيا بحيث تأخذ بعين الاعتبار المصالح التركية في هذا البلد، ولا سيما تلك المرتبطة بواردات النفط والغاز التي أنفقت عليها تركيا نحو 42 مليار دولار أمريكي في عام 2018، إضافة إلى تسهيل سيطرة أنقرة على مصادر الغاز المهمة في مياه شرق المتوسط، وفوق كل ذلك استعادة تركيا الأردوغانية لنفوذها وهيمنتها في المناطق والدول التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية البائدة، والتي لا يتوقف أردوغان وأركان نظامه عن الحديث عنها والتذكير بها.
والأمر الذي لا شك فيه هو أن إرسال قوات تركية إلى ليبيا سيشكل تهديدا خطيرا للأمن القومي العربي برمته، ولدول الجوار الليبي تحديدا، ولا سيما في ظل التقارير التي تتحدث عن أن أردوغان سيقوم بإرسال العناصر المتطرفة المنتمية إلى داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية الموجودة في سوريا، والتي كانت، ولا تزال، تدعمها تركيا حتى اليوم، إلى ليبيا لتحول هذا البلد العربي إلى بؤرة جديدة للجماعات الإرهابية والمتطرفة، لن يسلم منها أحد، ولا سيما في دول الجوار. كما أن هذا التدخل، يستهدف الإبقاء على وتعزيز المليشيات المسلحة التي تخضع لهيمنة التيارات الإسلامية المتطرفة، وتغيير موازين القوى على الأرض لمصلحتها، وهو أمر لن يحقق الأمن المنشود في ليبيا، ولا في المنطقة كلها.
لا أشك في أن مآل مغامرة أردوغان في ليبيا سيكون هو الفشل مثل مغامراته الأخرى، فلا الشعب الليبي وجيشه الوطني، ولا دول الجوار الليبي، العربية والأوروبية، على السواء، ولا أحد في العالم كله، ربما باستثناء الإخوان المسلمين والقوى الداعمة لهم التي لا تعرف معنى الأوطان وسيادتها، سيدعم تدخلا عسكريا تركيا في ليبيا، أو وجودا لأنقرة في هذا البلد، ولن يجني أردوغان من مغامرة كهذه إلا مزيدا من العزلة الدولية والإقليمية، ومزيدا من الخسائر العسكرية والاقتصادية، في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي بشدة من تبعات مثل هذه المغامرات غير المحسوبة. ولكن أردوغان لا يبدو أنه بات معنيا بأمر الاقتصاد التركي، وكل ما يهمه هو المصالح الأيديولوجية الضيقة لحزبه الذي بدأ هو نفسه يتصدع بسبب رفض كثير من رموزه وقياداته السابقة لسياسات أردوغان المتخبطة والفاشلة، والتي حولت تركيا إلى عدو لكثير من الدول المحيطة بها، وقلبت سياسة "صفر مشكلات" مع دول الجوار التي ضمنت للاقتصاد التركي النهوض والتطور السريع، إلى "صفر سلام"، وهو الأمر الكفيل بإعادة الاقتصاد التركي إلى وضعه المتدهور السابق. إن إمعان تركيا أردوغان في سياسات التوسع وتهديد الجيران، لن يحقق لها أي مكاسب سوى تعزيز مشاعر الكراهية والعداء لها في أوساط الشعوب العربية، وعلى تركيا أن تستفيد من خبرات القوى الإقليمية الأخرى التي حاولت انتهاج السياسات نفسها، وأصبحت اليوم تعاني داخلياً وإقليمياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة