يعكس الانخراط الباكستاني في الملف الليبي، مع صفقة أسلحة بقيمة نحو 4.6 مليارات دولار مع قوات الجيش الليبي
، الدور المركزي للمؤسسة العسكرية في صياغة السياسة الخارجية لإسلام آباد خارج نطاقها التقليدي.
فالمسألة لا تتعلق بمجرد تسليح، بل بتوظيف القوة العسكرية ضمن منطق «الدور الوظيفي»، ما يضع باكستان أمام تحديات دولية وإقليمية وداخلية، حيث تُستدعى لأداء مهام تخدم توازنات القوى الكبرى بينما تظل خياراتها الاستراتيجية محدودة ضمن نظام دولي غير متكافئ
اولا. المنظور الاستراتيجي: الواقعية النقدية والتبعية البنيوية
من منظور الواقعية النقدية، يصعب فصل صفقة بهذا الحجم عن السياق الدولي الأوسع. فالدول التي تعتمد بنيوياً على المؤسسات المالية الدولية، نادرًا ما تتحرك عسكرياً في ساحات معقدة كليبيا دون "تسامح دولي" محسوب من القوى المؤثرة في النظام الأمني العالمي.
إن الصفقة تشير إلى قبول ضمني بأن تؤدي باكستان دور «المزوّد التنفيذي»؛ فهي تسد فجوات تكتيكية تخدم توازنات القوى الكبرى، مما يمنح تلك القوى "هامش إنكار" سياسي ويخفف عنها الكلفة المباشرة، بينما تظل باكستان في موقع الطرف الذي يتحمل التبعات القانونية والسياسية.
ثانيا. البحث عن مناورة جيوسياسية
أبعد من المكاسب المالية، يعكس الانخراط الباكستاني في ليبيا محاولة لملء "فراغات استراتيجية" في أعقاب إعادة تشكل النظام الدولي. باكستان، المحصورة لسنوات في صراعات الجوار، تسعى اليوم لتقديم نفسها كـ "قوة موازنة" قادرة على التحرك في مناطق بعيدة. هذا التوجه يمثل استراتيجية "تعدد الانتماءات" (Multi-alignment)، عبر استرضاء المعسكر الداعم لحفتر دون قطع العلاقات مع تركيا أو الشرعية الدولية، محوّلة ضعفها الاقتصادي إلى دور وظيفي في أمن المتوسط، وهي منطقة لم تكن ضمن أولويات أمنها القومي
ثالثا. تحديات التموضع الإقليمي بين الشركاء والخصوم
تُمثل التحركات الباكستانية الأخيرة في المشهد الليبي حالة دراسية معقدة في "الواقعية السياسية" ، حيث تسعى إسلام آباد للموازنة بين مقتضيات الحاجة الاقتصادية وطموحات التوسع في أسواق الدفاع، وبين الحفاظ على تحالفاتها التقليدية الراسخة. ومع ذلك، فإن هذا التوجه يضع السياسة الخارجية الباكستانية في مواجهة مباشرة مع معضلة "الازدواجية الاستراتيجية" تجاه حليفها الوثيق، الجمهورية التركية.
تعتبر أنقرة فاعلاً مركزياً في الملف الليبي، حيث تستند استراتيجيتها هناك إلى دعم حكومة الغرب لضمان مصالحها الحيوية في حوض المتوسط. وفي هذا السياق، فإن انخراط باكستان في تزويد الأطراف المناهضة في الشرق بالعتاد العسكري لا يُنظر إليه كمجرد نشاط تجاري عابر، بل كمتغير قد يؤدي إلى تخلخل في بنية الثقة الاستراتيجية بين البلدين.
محاولة المؤسسة العسكرية في إسلام آباد ممارسة "دبلوماسية المسافات المتساوية" في ليبيا تنطوي على مخاطر بنيوية، إذ إن تغليب المكاسب التكتيكية الآنية (Transactional Gains) على التحالفات العميقة قد يفقد باكستان الميزة التفضيلية في تعاونها الدفاعي والتقني مع تركيا، ويطرح تساؤلًا حول قدرة صانع القرار على ضبط هذه المناورة دون صدام دبلوماسي يحد من هوامش حركته في ملفات إقليمية أكثر حيوية.
في المشهد الإقليمي الأوسع، تتقاطع التحركات الباكستانية مع أجندات القوى العربية، بين "القبول الوظيفي" و**"التحفظ الدبلوماسي.
محور الاستقرار الأمني (القاهرة وأبو ظبي): تنتهج هذه القوى نهج "القبول المشروط" تجاه الدور الباكستاني، معتبرة إسلام آباد شريكًا تقنيًا يساهم في تعزيز قدرات الجيش الوطني الليبي. إلا أن هذا القبول يظل محدودًا بسقف بنيوي يمنع باكستان من التحول إلى فاعل استراتيجي مستقل، ويجعل من دورها وظيفيًا محكومًا ضمن الرؤية الإقليمية للمحور وتوازناته القائمة.
المقاربة القطرية والتركية: يمثل الانزياح الباكستاني نحو الشرق الليبي نوعاً من "التنافر الاستراتيجي" مع محور الدوحة-أنقرة. فبينما تفضل قطر المسارات التوافقية والقوة الناعمة، وتعتبر تركيا غرب ليبيا خطاً أحمر لمصالحها الحيوية، فإن تزويد خصومهم بالسلاح الباكستاني يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى صمود "الثقة الاستراتيجية" أمام إغراءات "المكاسب التكتيكية" التي تسعى إليها إسلام آباد لتخفيف أزماتها الاقتصادية.
الموقف السعودي: "الحياد النشط" وإدارة المخاطر: تتخذ الرياض موقعاً يتسم بـ "البراغماتية الدفاعية"، حيث تنظر للنشاط الباكستاني من منظور "إدارة الأزمات" لا تعظيم المكاسب العسكرية. وبالنسبة لصانع القرار السعودي، يمثل الوجود الباكستاني أداة احتواء محتملة، شريطة ألا يؤدي هذا الانخراط إلى استفزاز القوى الدولية أو فتح جبهات استنزاف جديدة تزيد من تعقيد المشهد الأمني في المنطقة.
رابعا. السياق الداخلي: عسكرة السياسة الخارجية
تواجه باكستان أزمات اقتصادية وأمنية وسياسية متفاقمة، تفاقمت بنفوذ المؤسسة العسكرية بقيادة المارشال عاصم منير وصلاحياته الواسعة، ما أثار انقسامات داخلية بين الجيش والساسة وقادة الأحزاب الدينية حول قضايا تشريعية وانخراط باكستان في ملفات مثل غزة وليبيا. ويعكس الانخراط في ليبيا، الدور المركزي للمؤسسة العسكرية في صياغة السياسة الخارجية، وتوظيف القوة ضمن منطق «الدور الوظيفي»، ما يضع البلاد أمام تحديات دولية وإقليمية وداخلية في نظام دولي غير متكافئ.
خامسا. المستوى الدولي: إدارة الأزمات لا التحالفات
على المستوى الغربي، تُقرأ هذه الخطوة ضمن إطار "إدارة الأزمات". فواشنطن والعواصم الأوروبية قد تبارك تدخل أطراف ثالثة شريطة ألا تُقوّض مسارات التسوية السياسية. وفي الوقت ذاته، تراقب روسيا والصين هذا الدخول الهادئ لفاعلين جدد، مستفيدين من حالة السيولة في النظام الدولي التي تسمح بتفكيك الاحتكارات الإقليمية لصالح توازنات متعددة الأقطاب.
الخلاصة
إن المقامرة الباكستانية في ليبيا ليست مجرد صفقة سلاح، بل اختبار لقدرة الدولة على تحويل دورها الوظيفي إلى نفوذ مؤثر. نجاح أو فشل هذه الخطوة سيحدد مدى قدرة إسلام آباد على الموازنة بين طموحاتها الإقليمية ومحدودية إمكانياتها، ويشكل مؤشراً على مستقبل سياساتها الخارجية في بيئة دولية غير متكافئة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة