يشير بعض الخبراء اليوم في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية إلى تباطؤ في وتيرة العولمة مقارنة بالسنوات الماضية.
فعلى الرغم من أن العولمة ما زالت مستمرة في تشابك حلقات الاعتماد المتبادل في الصناعة والتجارة والمعرفة والابتكار وحقوق الملكية والأمن والتواصل بين الشعوب والأمم، إلا أنها لم تعد تتقدم بنفس السرعة في التجارة الدولية، والاستثمارات، وحركة العمالة، والتعاون الاقتصادي. فهذا التباطؤ لا يعكس أزمة اقتصادية عابرة بقدر ما يكشف عن تحول أعمق في علاقة العولمة بالدولة القومية.
العولمة ومعضلة ديترويت
لا يمكن أن تتوقف العولمة، لكنها تواجه اليوم معضلة بين الليبرالية الاجتماعية والنيوليبرالية. فالنيوليبرالية ألغت وأحرقت ما مثلته معاهدة ديترويت. بين عامي 1945 و1980، كانت البلدان الصناعية خارج الكتلة الشيوعية تسير نحو النموذج الديمقراطي الاجتماعي، ممهّدة الطريق لدولة الرفاهية والخدمات والعدالة الاجتماعية والاستحقاقات القائمة على العمل.
بدأ التحول الفارق عام 1980 عندما تبنت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا سياسات نيوليبرالية، تهدف إلى تخفيف نفقات الدولة، بما فيها البرامج الاجتماعية، مع خصخصة القطاع العام وتوجيه الشركات نحو العمالة الرخيصة في أنحاء العالم. وأحدثت الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقومية نمواً اقتصادياً، ووفرت وظائف في العديد من البلدان النامية، لكنها أدت أيضاً إلى ما يمكن تسميته بـ«معضلة النيوليبرالية». أبرز جوانب المعضلة يتمثل في تآكل التقاسم الضمني للدخل بين رأس المال والعمالة، الذي كان نموذجاً في معاهدة ديترويت بين نقابة عمال السيارات المتحدة وشركة جنرال موتورز عام 1950.
كما أدى ظهور الرأسمالية الريعية إلى امتلاك الأسهم في المصانع والشركات الخدمية والسندات الحكومية دون المشاركة في الإنتاج. وحينما طبّقت منظمة التجارة العالمية حقوق الملكية الفكرية عام 1995، تمكنت الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات من تأمين أرباح احتكارية، ما عزز مكاسبها على حساب الاقتصاد العام. ولكن بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، تفوقت بكين على واشنطن في طلبات براءات الاختراع بحلول 2011، وبحلول 2013 شكلت الصين ثلث الإيداعات العالمية.
نتيجة هذه التحولات، زادت البطالة، وانخفضت القوة الشرائية، وتكوّنت طبقة «البريكاريا» المحرومة من وظائف مستقرة وتأمينات، بينما ظهرت المطالب بالسياسات الحمائية لحماية الصناعات المحلية.
الدول الكبرى في ميزان العولمة
العولمة أعادت رسم ميزان القوة الاقتصادية بين الدول الكبرى والقوية. ومثال ذلك مدينة دويسبورغ الألمانية، التي كانت معقلاً لصناعة الحديد والصلب والفحم لألمانيا وأوروبا، حتى قامت الصين في أواخر السبعينيات بنقل مصنع ضخم للصلب والحديد من دويسبورغ إلى أراضيها. اليوم تسيطر بكين على نسبة كبيرة من إنتاج الحديد والصلب عالميًا، بينما تراجع دور الصناعة في الولايات المتحدة وألمانيا، ومن الأهمية بمكان ذكر بأن الصلب والحديد مرتبطان بالقوة العسكرية ومختلف الصناعات. وأصبحت دويسبورغ الألمانية اليوم مركزًا للسلع الصينية لأوروبا ضمن مبادرة الحزام والطريق.
العولمة والدولة القومية
تسعى الدولة القومية إلى التحكم في مساراتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الحيوية، وضمان استدامتها في مواجهة التهديدات الجيوسياسية والاضطرابات العالمية، مع تأمين الموارد الأساسية مثل الطاقة والوظائف والخدمات. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تقليل الاعتماد المتبادل المفرط.
فقد ظهر مفهوم الأمن الجيواقتصادي (Geo-economic Security)، حيث أصبح الاقتصاد ليس مجرد أداة تعاون، بل ساحة صراع استراتيجي، فلم تعد الاستثمارات والتجارة قرارات مالية فحسب، بل أدوات لتعزيز الأمن القومي والنفوذ الدولي. ويشمل الأمن الجيواقتصادي قدرة الدولة على حماية مواردها، وسلاسل الإمداد، وتجارتها، وتوفر الطاقة على أرضها وموقعها الجغرافي، وقدرتها على تقديم أفضل السياسات العامة والخدمات لشعبها، تمامًا كما تحمي حدودها وإقليمها.
الغرب والعولمة
في مواجهة الدولة القومية المتحكمة، استفادت الصين من العولمة على عكس العديد من دول الغرب. مع هذه الحقيقة، بدأت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية في تبني سياسات حمائية، مع مراجعة ونقد السياسات السابقة من ناحية الأمن وقوة الدولة القومية، والتي تسببت في التراجع عن إنتاج بعض السلع التي كانت تتميز بها سابقًا. مثال على ذلك صناعة الأدوية في ألمانيا، فألمانيا كانت تُعرف أو تُلَقب بـ«صيدلية العالم». ولقد واجهت ألمانيا نقصاً في المضادات الحيوية وأدوية الأطفال والمحاليل الطبية، بعد نقل العديد من مصانعها إلى الصين والهند؛ وهذه المعضلة سببها أطر العولمة وما تتيحهُ من تقسيم خطوات الإنتاج وحرية الاستثمار، وتحقيق الأرباح عبر العمالة الرخيصة والتوزيع ووجود شروط بيئية أقل صرامة من الأوروبية؛ لذا أصبحت العديد من المصانع الألمانية تنتج أدويتها في الصين والهند.
خلاصة القول: العولمة واقع وحقيقة لا يمكن إيقاف مساراتها، لكنها بحاجة إلى ضبط وتوازن مع مصالح الدولة القومية. فالمستقبل يتطلب سياسات ذكية توازن بين الاعتماد المتبادل وحماية الاقتصاد والمجتمع، لتظل الدولة القومية قادرة على مواجهة التحديات الجيوسياسية والاقتصادية دون فقدان سيادتها وقدرتها على التنمية وشرعيتها في السلطة، وإلا ستصبح الدولة مجرد جامع للضرائب لتوفير أسس السياسة العامة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة