في مسيرة المعرفة، تبرز بعض المجالس كمنصات فكرية واجتماعية تتلاقى فيها الرؤى والخبرات، ويُعاد من خلالها تجديد الفهم وتعزيز الإدراك حول التطورات والتحديات في الحياة والمجتمع.
ويأتي مجلس العقيد ركن متقاعد الدكتور عبد الله محمد المحياس كأحد هذه الفضاءات الغنية التي تجمع بين العلم والمعرفة والتجربة وحتى عمل الخير والدعم، فهو يفتح بابًا واسعًا للحوار المعرفي وحضور التجربة وتكوين الصداقات مع شخصيات من دولة الإمارات ومختلف بقاع الأرض، مع حسن وكرم الضيافة.
في مجلس "المحياس"، كان لي شرف تقديم محاضرة حول "الهوية والعولمة"، وهو موضوع يكتسب أهمية في ظل التحولات العالمية المتسارعة. وجاءت المحاضرة في سياق استراتيجية الهوية الوطنية، التي طورت بالشراكة بين وزارة الثقافة ومكتب المشاريع الوطنية في ديوان الرئاسة، وقد عبرت عنها الشيخة مريم بنت محمد بن زايد آل نهيان-نائب رئيس ديوان الرئاسة لشؤون المشاريع الوطنية- بقولها: «الهوية الوطنية إرث نعتز به وأمانة نحملها في قلوبنا، تجسد روح الإنسان الإماراتي وانتماءه الأصيل لوطنه وقيمه».
وتهدف الاستراتيجية إلى ترسيخ الهوية الوطنية الإماراتية في الحياة اليومية والمؤسسية عبر الركائز الأساسية: القيم والأخلاق الإسلامية، اللغة العربية واللهجة الإماراتية، الاتحاد والوطن، التراث والعادات والتقاليد، التاريخ والجغرافيا والذاكرة المشتركة، والأسرة الإماراتية. مع تطبيق الاستراتيجية في سبعة أبعاد تشمل: التعليم، الثقافة، الإعلام، الدين، الأسرة، الاقتصاد، والسياسات الحكومية.
في هذا المقال، أتناول موضوع الهوية كما كان في المحاضرة من خلال عدة محاور: الذات والهوية، والهوية في الدراسات الحديثة، قوالب الهوية، الهوية في العلاقات الدولية، والهوية كمحدد للسياسة الداخلية والخارجية، وأخيراً الهوية والعولمة.
الذات والهوية
الهوية هي انعكاس للذات الإنسانية، التي تتشكل عبر المكان والزمان والعلاقات الاجتماعية والثقافية. فكل جماعة بشرية كوّنت لنفسها ذاتية خاصة عبر لغتها وثقافتها وعاداتها. ومع تطور التاريخ، برزت الهويات الدينية والقومية والثقافية والسياسية كأطر تميز المجموعات البشرية، والتي خلقت بدورها مساحات للتفاعل والتنافس والتكامل والتحالف والصراع بين الذوات والمجتمعات والشعوب.
الهوية في الدراسات الحديثة
تناولت العلوم المختلفة الحديثة مفهوم الهوية، من علم النفس إلى العلوم السياسية. فعلم النفس الاجتماعي يرى الهوية إدراك الفرد لتفرده ضمن الجماعة، وتتكون تدريجيًا عبر التفاعل بين "الأنا" و"الآخر" أو "نحن" و"هم".
وعلم الاجتماع يؤكد بأن الهوية نتاج تفاعلات اجتماعية متغيرة، تُبنى من عضوية الفرد في فئات مثل الطبقة والدين والعرق والجنس والمنطقة الجغرافية بكل ما تحمل من طبيعة حية وغير حية. والأنثروبولوجيا تنظر إلى الهوية بكونها إطار الانتماء الجماعي، سواء كان عرقيًا أو لغويًا أو ثقافيًا. وفي العلوم السياسية فالهوية مرتبطة بالدولة والأمة، وتظهر في الانتماء القومي والمواطنة والنظام السياسي.
قوالب الهوية على الجغرافيا
نعرض أنواع الهوية المختلفة، من هوية الدولة إلى الهوية الإقليمية والثقافية والإيديولوجية.
هوية الدولة: تتكوّن الدولة الحديثة من شعب وإقليم وسلطة، وتمتلك سيادة تميزها عن غيرها.
هوية الإقليم: المنطقة الإقليمية تمتد من دولتين وأكثر، ففي هوية جنوب آسيا نجد الارتباط الأكبر مع حضارة وادي السند، بينما هوية شرق آسيا هي نتائج تأثيرات الفلسفات الشرقية "الكونفوشيوسية، الطاوية، البوذية"، وتختلف هوية أمريكا اللاتينية عبر اللغة المشتركة الإسبانية/ البرتغالية، والتراث الأوروبي الاستعماري، مع وجود أعراق وثقافات أصيلة مشتركة.
وإلى الأيديولوجية كهوية دولية تتجاوز حدود الإقليم، فقد شكلت الأيدولوجية الليبرالية والديمقراطية الهوية الغربية مع أهمية الترابط المعرفي للنهضة الغربية.
الهوية في العلاقات الدولية
ورغم أن العلاقات الدولية تقوم على المصالح البراغماتية وتحقيق القوة والأمن من المنظور الواقعي، إلا أنه بعد نهاية الحرب الباردة برزت البنائية، والتي ترى بأن الواقع الدولي ليس محكوما بالقوة المادية فقط، بل بالهوية والقيم والمعايير الاجتماعية والأفكار، فعلى سبيل المثال كندا لا تخشى الولايات المتحدة المجاورة لها رغم الخلل الضخم في توازن القوى، لأنها تشترك معها في القيم والهوية الغربية.
ومن الأمثلة على المدرسة البنائية في العلاقات الدولة تركيا بعد الحرب الباردة، حيث سعت إلى سياسة خارجية مرتبطة بهويتها مع آسيا الوسطى، ومن الأمثلة المهمة سلوك وقيم ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية والتي أوصلت أدولف هتلر إلى السلطة، ثم حدث تغير كبير في ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية نحو الليبرالية والديمقراطية، وفي فترتنا المعاصرة هناك حراك اجتماعي ألماني حيث تتغير القيم في ألمانيا نحو المحافظة والفاشية-"التشابه والتناسق العرقي والثقافي".
الهوية كمحدد للسياسة الداخلية والخارجية:
قطعا الهويات تصنع سياسة خارجية وداخلية، على سبيل المثال المملكة العربية السعودية لها هوية عربية ودينية من الأراضي المقدسة، والذي يفرض عليها محددات في السياسة الخارجية لا تحكمها المصالح البراغماتية فقط، بل هناك مؤثرات كبيرة ولا يمكن تجاوزها في الهوية ومكونتها من ثقافة وقيم.
كما أن الهند وعبر حزب "بهاراتيا جاناتا"، والذي يعد أكبر حزب حاكم في العالم بعد الحزب الحاكم في الصين، أصبح يحتاج إلى إعادة بناء الهوية الهندية وليس حصرها في الهندوس دون المسلمين والمسيحيين والسيخ الهنود.
وإلى المملكة المتحدة، نكتشف قوة الهوية، حيث يرجع عدم انفصال اسكتلندا في استفتاء 2014 ليس لعامل اللغة والتاريخ وحسب، بل أيضًا لسبب الجنسانية “التزاوج”.
ومن الهويات الغريبة هو الختان، فمازال الكثير من اليهود يعتقد بأن الختان الإبراهيمي ودمهِ هو حبر وعقد واتفاق بينهم وبين الله عزوجل، وبذلك يعدون أنفسهم شعب الله المختار، مقابل ذلك هناك يهود بأيديولوجيات أخرى تؤمن بالانفتاح وبأن ليس لليهود أفضلية على الأمم.
الهوية والعولمة
الهوية ليست في إطار جامد، بل في عملية مستمرة من البناء والتفاعل بين الذات والآخر، بين المجتمعات وبين الأمم. وفي زمن العولمة- حيث نعيش اليوم في عالم متشابك العلاقات يعتمد على الترابط الاقتصادي والتقني والثقافي والمعرفي والأمني والإنساني والتواصل والاتصال والاعتماد المتبادل بين الأمم والشعوب والمجتمعات والصناعات والشركات- تتعرض الهويات الوطنية والثقافية لتحديات عديدة وكبيرة منها انتشار الليبرالية والثقافة الغربية، ما يستدعي التمسك بالجذور والقيم الأصيلة دون الانغلاق عن العالم.
ومن منطلق كون اللغة أهم مكونات الأمم والشعوب، هناك ظاهرة موت اللغة في ظل العولمة، فعندما كان عدد سكان العالم 6 مليارات-الآن العدد تجاوز 8 مليارات-، طرح عالم اللسانيات الدكتور ديفيد كريستال David Crystal موت اللغة، وقدم معلومتهِ الشهيرة "بأن 96% من لغات العالم يتحدث بها 4% من سكان العالم، مقابل 4% من اللغات يتحدث بها 96% من سكان العالم.
حقيقةً، اللغة ليست أداة تواصل وتعلم ومعرفة فقط، بل أسلوب حياة وقيم وتاريخ وهوية وعلاقة مع جغرافيا معينة، إنها روح المجتمع والأمم.
وفي الحالة الإماراتية، نجد الهوية الإماراتية لها روافد من الانتماء العربي والخليجي، مع أهمية التأثيرات الآسيوية التاريخية الناتجة عن القرب الجغرافي والتبادل التجاري مع بلاد الهند والصين وإيران، والتي رسمت جزءاً مهما من هوية اللملبس والمأكل والأدوات المستخدمة في حياة الإماراتي والخليجي عموماً.
ومع انتشار اللغة الإنجليزية كلغة عالمية حاضرة بقوة في التعليم والاقتصاد والإعلام، أصبحت الهوية الإماراتية تحمل بعداً دوليًا، كما أن التعددية السكانية في دولة الإمارات تعكس التسامح في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات، ما يعزز الانفتاح والتفاعل الحضاري.
كل ذلك لا يقلل من أهمية الحفاظ على الهوية الإماراتية العربية ودعمها داخليًا وخارجيًا في ظل العولمة، والتي تحتاج إلى تعزيز السياسات والتشريعات والبرامج الحكومية الداعمة للهوية الإماراتية.
فالرؤية الإماراتية الحديثة تقوم على تبني نموذج يجمع بين الأصالة والحداثة، وتظل الهوية الوطنية مشروعًا حيًا يعبر عن الإنسان الإماراتي في بيتهِ ومدرستهِ ومؤسساتهِ ومجتمعهِ وتواصلهِ بين محتلف الشعوب، كما توازن الهوية بين الأصالة والانفتاح، وبين العروبة والإنسانية، في إطار رؤية حضارية شاملة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة