تعيش الهويات الوطنية في عالم اليوم اختبارًا حقيقيًا أمام موجات العولمة والرقمنة وتدفق الثقافات التي تعيد تشكيل الوعي الجمعي، وتؤثر في منظومات القيم والانتماء.
ففي ظل هذا الواقع المتغير، تبرز دولة الإمارات العربية المتحدة كنموذج فريد في إدارة العلاقة بين الخصوصية والانفتاح، من خلال استراتيجية الهوية الوطنية التي أعادت صياغة مفهوم الانتماء باعتباره طاقة إنسانية جامعة تتجدد مع الأجيال وتستمد قوتها من تفاعلها الإيجابي مع العصر.
تنطلق الرؤية الإماراتية من إدراكٍ عميق بأن الهوية ليست جدرانًا ثقافية تُغلق المجتمع على ذاته، بل منظومة قيمية حيوية تُوحّد أبناء الوطن رغم تنوّعهم، وتتيح لكل فئة أن تسهم في مشروع الدولة من موقعها. لذلك، ركّزت الاستراتيجية على دمج القيم الوطنية في التعليم والإعلام والأسرة، لتصبح الهوية ممارسة يومية وسلوكًا مؤسسيًا لا شعارًا رسميًا. فالمدرسة تُغرس فيها القيم، ووسائل الإعلام تُعيد إنتاجها في الوعي العام، والأسرة تُترجمها إلى عادات وتربية متجذّرة.
وما يميز المقاربة الإماراتية أنها لا تختزل الهوية في إطارٍ عرقي أو ديني، بل تراها عامل استقرار وتلاحم اجتماعي يتسع للتعدد الثقافي والديني واللغوي الذي يثري المجتمع الإماراتي. فالمقيم في الإمارات ليس غريبًا عن نسيجها، بل شريك في تجربتها الحضارية يعيش في ظل منظومة قوامها الاحترام المتبادل والانسجام الإنساني. وهكذا، تحوّل مفهوم الهوية من حدود تفصل إلى فضاء يحتضن، ومن انتماء ضيق إلى مشروع تعايش واسع يعبّر عن وطنٍ واثقٍ من ذاته ومنفتح على العالم دون خوفٍ من الاختلاف.
هذا التوازن بين الأصالة والانفتاح هو ما جعل الإمارات نموذجًا عالميًا في ترسيخ قيم التسامح والعيش المشترك. فقد استطاعت الدولة أن تبني هوية مرنة قادرة على التكيف مع التحولات العالمية دون أن تفقد جوهرها، مستندةً إلى رؤية قيادية تؤمن بأن التعدد قوة، وأن الحوار مع الآخر ليس تهديدًا بل فرصة للغنى والتطور.
لكن العولمة الرقمية فرضت تحديات جديدة تتعلق بوسائل التواصل، وصناعة المحتوى، وتغيّر منظومات القيم، مما استدعى تحديث أدوات قياس الهوية ومؤشراتها. ومن هنا برز مؤشر الهوية الوطنية كأداة علمية متقدمة لقياس مستويات المعرفة والانتماء والممارسة في السلوك الفردي والمجتمعي. فهو لا يكتفي برصد الظواهر، بل يوجّه السياسات الثقافية والتعليمية بما يضمن استمرار التوازن بين الثابت والمتغير.
وتكمن خصوصية التجربة الإماراتية في أنها تربط الهوية بالتنمية والابتكار، فلا تُبقيها في الماضي ولا تفصلها عن المستقبل. فعندما تُدمج القيم في المناهج، وتُصان اللغة والتراث في الإعلام والثقافة، وتُحتفى بالعادات ضمن سياقات حديثة، تتحول الهوية إلى قوة إبداعية تنتج خطابًا حضاريًا جديدًا يجعل من التنوع مصدرًا للإلهام لا للانقسام.
إن الهوية الإماراتية، كما صاغتها الاستراتيجية الوطنية، ليست سورًا يحجب بل جسرًا يربط، يحمل في طيّاته إرثًا عريقًا ورؤية عالمية منفتحة. إنها مشروع إنساني متجدد يوازن بين الثبات والتطور، بين الجذور والطموح، لتغدو نموذجًا عالميًا في كيفية تحويل الهوية من انتماءٍ محدود إلى قوة حضارية تُثري الإنسانية كلها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة