ديناميات "الوفاق" لمواجهة ضغوط الجيش الوطني الليبي
تحركات الوفاق في الفترة الأخيرة تؤكد بشكل قاطع إدراك صعوبة الموقف التفاوضي في ظل سيطرة الجيش الوطني الليبي على غالبية الأراضي الليبية.
تسعى حكومة الوفاق إلى توظيف جميع الأدوات الممكنة من أجل تحقيق هامش تقدم يسمح لها بالمناورة في حال تم الاحتكام إلى العملية التفاوضية في مواجهة الجيش الوطني الليبي، الذي يملك أوراقاً رابحة أكثر وفق معطيات الواقع الليبي الحالي، خاصة مع تزايد الدعوات الدولية نحو ضرورات إعادة إحياء المسار السياسي في ليبيا، ولعل آخر تلك الدعوات مطالبة مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي في 27 سبتمبر/أيلول المنقضي، بضرورة البحث عن حل سياسي للأزمة الليبية، وتعيين مبعوث مشترك للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة إلى ليبيا، وفي هذا الإطار فقد تعددت مسارات تحرك حكومة الوفاق ومليشياتها في محاولة يائسة منها لاستنزاف الجيش الوطني الليبي.
تصعيد مدفوع ومندفع
جاءت كلمة فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق، في 25 سبتمبر/أيلول المنقضي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كاشفة بشكل كبير عن اصطفافات الوفاق، خاصة مع تنديده بعض الأدوار الإقليمية والدولية، مما يشير إلى أن موقف السراج ينطلق بالأساس من أنقرة والدوحة.
ويأتي موقف السراج متناقضاً مع الواقع بشكل جذري؛ خاصة أن الإمارات لم تدخر جهداً في سبيل حلحلة الأزمة الليبية، التي كان آخرها استضافة أبوظبي اجتماعاً في فبراير/شباط 2019 بين السراج وقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، برعاية أممية، وذلك بهدف التوصل لاتفاق ينهي المرحلة الانتقالية ويكرس الاستقرار، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تجمع فيها الإمارات طرفي الصراع الرئيسيين؛ حيث سبق وقد اجتمعا في مايو/أيار 2017 في إطار محاولة إيجاد حل سياسي للأزمة الليبية.
كذلك فإن مصر قد بذلت جهداً كبيراً نحو محاولة إحياء المسار السياسي في الأزمة الليبية؛ حيث استضافت القاهرة في أواخر عام 2017 كلاً من حفتر والسراج، كما استضافت في منتصف يوليو/تموز الماضي أعضاء مجلس النواب الليبي برعاية اللجنة الوطنية المعنية بالأزمة الليبية، في إطار محاولة توحيد رؤى النواب الليبيين تجاه حل سياسي يدعم الاستقرار في ليبيا، وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قد أكد خلال كلمته على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر/أيلول الماضي، أن ثمة حاجة لتضافر الجهود لمنع الفصائل المسلحة المسيطرة على ليبيا وكذلك الأطراف الخارجية من التدخل في الصراع الليبي.
توظيف الفتاوى الدينية
خرج المفتي المعزول الصادق الغرياني بآراء شديدة التطرف في مواجهة الجيش الوطني الليبي؛ حيث أفتى في 25 سبتمبر/أيلول المنقضي، في حديث تلفزيوني على قناة "التناصح" بوجوب قتال الجيش الليبي، على كل مكلف قادر على الدفع، دفاعاً عن النفس، واعتبر الغرياني أن كل من يقاتلون مع حفتر مرتزقة سواء كانوا ليبيين أو أجانب.
وفي 12 سبتمبر/أيلول المنقضي، وجَّه الغرياني، المقيم حالياً في تركيا، رسالة إلى متابعيه ومؤيديه بضروة اجتياح ترهونة، الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني الليبي، وتبعد عن العاصمة طرابلس 88 كم، للقضاء على مَن وصفهم بالمفسدين وعملاء مشروع الصيهونية، واعتبر أن المدافعين عن طرابلس لن يتمكنوا من حسم المعركة ما لم يحسموا أمر ترهونة، على غرار عملية غريان، وبالتالي فإن موقف الغرياني تحريضي ضد الجيش الوطني، وهو ما دفع الحركة الوطنية الشعبية الليبية إلى الاعتراض على ذلك، بل مطالبة السلطات القضائية الليبية وكذلك المحكمة الجنائية الدولية بضرورة التحرك لملاحقة الإرهابي الهارب في تركيا.
كما أفتى الغرياني سابقاً بعدم جواز الصلاة خلف مَن يدعو لنصرة حفتر، وكذلك فقد أصدر فتوى بأن من ينضم إلى حفتر ويموت معه، يخشى أن يموت ميتة جاهلية، في حين أن مَن يقاتله ويموت فهو شهيد في سبيل الله، كما أجاز دفع أموال الزكاة للجماعات المسلحة التي تقاتل إلى جانب حكومة الوفاق من أجل شراء المقاتلين والسلاح، وتعكس تلك الفتاوى الدينية المنحرفة كيفية محاولة استغلال الدين بطرق ملتوية من أجل دعم المشروع المليشياوي في ليبيا.
تأجيج المدن الآمنة
في منتصف سبتمبر/أيلول المنقضي تم تداول قرار مُوقَّع من مدير مكتب وزير داخلية الوفاق، العميد أحمد الصادق، يتضمن إشارة إلى أحقية مواليد إقليم أوزو التشادي، ممن يحملون أرقاماً وطنية، في الحصول على جوازات سفر ليبية، ويعتبر إقليم أوزو سبباً في نزاع طويل سابق بين ليبيا وتشاد حسمته محكمة العدل الدولية بأحقية تشاد فيه، ودلالات توقيت مثل ذلك القرار تعود إلى محاولة حكومة الوفاق توظيف المرتزقة التشاديين في الصراع مع الجيش الوطني الليبي، خاصة في ظل الاتهامات المتلاحقة خلال الفترة الأخيرة بمسؤولية الوفاق عن جرائمهم في الجنوب الليبي، وبالتالي فإن ذلك القرار بمثابة خطوة نحو شرعنة توظيفهم في الصراع.
ومن جانب آخر، فإنه في ظل تحركات الجيش الوطني الليبي نحو تحرير العاصمة طرابلس غربي ليبيا، فقد سعى بعض المرتزقة التشاديين إلى نقل المعركة للجنوب من أجل تشتيت جهود الجيش الذي كان قد طردهم من الجنوب في مطلع العام الجاري؛ حيث إنهم عادوا مرة أخرى إلى الجنوب تزامناً مع إطلاق معركة طوفان الكرامة في أبريل/نيسان الماضي، بإيعاز من حكومة الوفاق التي اتهمها النائب الليبي طلال ميهوب، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان الليبي، بأنها تمنح تمويلات مباشرة للمليشيات التشادية التي تحرق منازل المدنيين في مرزق.
كما يقوم المرتزقة التشاديون بجرائم متعددة في مدينة مرزق جنوب ليبيا، وهو ما حدا بشعبة الإعلام الحربي التابعة للجيش الليبي إلى إصدار بيان في أغسطس/آب الماضي، يتضمن التأكيد على أن العصابات التشادية المرتزقة تقوم بتهجير أهالي مرزق وحرق منازلهم، هو ما يمكن اعتباره "تطهيراً عرقياً مدعوماً من تنظيم الإخوان الإرهابي المتستر بحكومة الوفاق غير الشرعية"، بحسب تعبيرها، وتشير التقديرات إلى أنه قبل عام 2011 كان عدد سكان مرزق حوالي 25 ألف نسمة، ولكن بعد إسقاط القذافي تجاوز العدد 50 ألف نسمة في ظل تحركات استيطانية من جانب عناصر تشادية إلى المدينة، نتيجة الفراغ السياسي والأمني فيها، وهو ما يعني إحداث تغير ديموغرافي للمدينة، خاصة مع تهجير أهلها وهروبهم من الجرائم الشديدة التي يقوم بها المرتزقة التشاديون.
وتعتمد استراتيجية حكومة الوفاق في استعادة المدن الآمنة، الواقعة تحت سيطرة الجيش الليبي على توظيف الخلايا النائمة، حتى لو كانت مليشيات أو تنظيمات إرهابية، مثلما حدث مع استعادة مدينة "غريان" الاستراتيجية جنوب غربي طرابلس في يونيو/حزيران الماضي؛ حيث أكد المسماري آنذاك أن بعض الخلايا النائمة قامت بزعزعة الأمن في غريان، وأمّنوا تقدم المليشيات المسلحة قبل اقتحام المدينة والسيطرة عليها، وبالتالي فإن ما يحدث في مدينة مُرزق، ما هو إلا محاولة لاستنساخ تجربة غريان من جديد ولكن بتوظيف مليشيات أكثر جرماً وعنفاً.
وفي المجمل، فإن تحركات حكومة الوفاق في الفترة الأخيرة تؤكد بشكل قاطع إدراك صعوبة الموقف التفاوضي في ظل سيطرة الجيش الوطني الليبي على غالبية الأراضي الليبية، إلى جانب نجاح المشير حفتر في فرض نفسه باعتباره الطرف الأهم في أي مسار تفاوضي محتمل، ويمكن القول إن توظيف حكومة الوفاق للأدوات غير المشروعة بشكل برجماتي من أجل تحقيق أي نجاحات ممكنة على الأرض سوف ينعكس بأثر سلبي، خاصة في ظل تزايد الانتقادات الدولية من توظيف الوفاق للمليشيات في معركة طرابلس، مع غضها الطرف عن قيام المرتزقة التشاديين بتأجيج الوضع في جنوب ليبيا وتوظيفهم بشكل أكبر في الصراع المحتدم.
aXA6IDE4LjIyMS4xMi42MSA= جزيرة ام اند امز