كيف يواجه الجيش الوطني الليبي الإرهاب التركي في طرابلس؟
الدور العسكري التركي على الأرض الليبية وصل إلى مراحل متقدمة، تجعل لزاماً على الجيش الوطني الليبي أن يواجه هذا الإرهاب.
خلال المؤتمر الصحفي الأخير للمتحدث باسم قيادة الجيش الوطني الليبي الذي عقد في 29 يونيو/حزيران الماضي، تحدث العقيد أحمد المسماري عن "غزو تركي" تواجهه قواته، وأعلن عن مجموعة قرارات مفادها أن قوات الجيش الوطني ستعتقل أي شخص يحمل الجنسية التركية على الأراضي الليبية، وكذلك ستقوم باستهداف أي سفينة أو طائرة تنتمي لتركيا إذا ما حاولت الدخول إلى المياه أو الأجواء الإقليمية لليبيا.
هذا التصريح يؤكد أن الدور العسكري التركي على الأرض الليبية وصل إلى مراحل متقدمة، تجعل لزاماً على قوات الجيش الوطني الليبي أن تبدأ في سلسلة إجراءات عاجلة لمواجهة هذا الدور المدمر.
خلال الساعات الماضية أصبح واضحاً بشكل كبير أن الجيش الوطني مصمم على التصدي للتدخلات التركية بشكل فعال، فبدأت وحداته البحرية منذ أيام في ممارسة حق التفتيش والزيارة للسفن المشتبه به قبالة الساحل الليبي، وكانت أولى الخطوات في هذا الصدد تفتيش الوحدات البحرية التابعة للجيش الوطني سفينة شحن ترفع علم توجو بعد خروجها من ميناء الخميس الواقع شرقي العاصمة طرابلس.
كذلك عممت قيادة الجيش الوطني على جميع وحدات الدفاع الجوي والقوات البحرية بالاستنفار التام للتصدي لأي محاولات تركية بحرية أو جوية لدخول الأجواء والمياه الإقليمية الليبية، وبدأت -بالتزامن مع هذا- حملة في معظم أنحاء ليبيا خاصة في مناطق شحات والبيضاء وبنغازي ودرنة، للتفتيش عن أصحاب الجنسية التركية الموجودين على الأراضي الليبية، وحملات لتغيير الأسماء تركية الأصل التي تمت تسمية بعض المحال التجارية الليبية بها، وكذا إغلاق المطاعم التركية الموجودة على الأراضي الليبية.
الغرض من هذه الإجراءات يتمثل في محاولة تحجيم الدور التركي الذي أصبح واضحاً على المستويين الميداني والعسكري، خلال الأيام الماضية بشكل غير مسبوق، فالتحذير الذي أطلقه الجيش الوطني بدأ يؤتي ثماره، حيث بدأ الطيران المدني التركي المقبل من وسط أفريقيا باتجاه الشمال في اتخاذ مسارات فوق تونس بديلا عن اتخاذ مساراته المعتادة مروراً بالأجواء الليبية.
الدعم التركي العسكري يتدفق على طرابلس
الدعم التركي لمليشيات السراج بدأ في الواقع مبكراً قبل معركة طرابلس، فقد ضبطت السلطات اليونانية في سبتمبر/أيلول 2015 سفينة شحن شمالي شرق جزيرة كريت كانت محملة بالأسلحة ومتجهة من ميناء الإسكندرونة التركي في اتجاه ميناء طرابلس، كما صادرت السلطات اليونانية في يناير/كانون الثاني 2018 سفينة أخرى قرب جزيرة كريت، ترفع علم تنزانيا وعلى متنها شحنة كبيرة من المواد المتفجرة قامت بتحميلها من الموانئ التركية في اتجاه ليبيا.
كذلك صادرت السلطات الليبية بميناء الخمس في ديسمبر/كانون الأول 2018 شحنة من الأسلحة الخفيفة والذخائر كانت على متن سفينة شحن قادمة من ميناء مرسين التركي. وفي فبراير/شباط 2019، وصل إلى ميناء الخمس الليبي على متن سفينة شحن قادمة من تركيا، عدة حاويات بداخلها عدد من ناقلات الجند المدرعة من نوع "PantherA N6" تركية الصنع بجانب عربات دفع رباعي أخرى من نوع "تويوتا".
ثم أصبح وصول هذا الدعم الى طرابلس أكثر علانية، حيث وصلت إلى ميناء طرابلس، أواخر مارس/آذار الماضي، شحنة أسلحة وذخائر وعربات مدرعة قادمة من ميناء سامسون التركي، على متن سفينة شحن تحمل علم مولدوفا، كجزء من الدعم العسكري التركي لقوات حكومة الوفاق الوطني في طرابلس. وكان على متن هذه السفينة بالإضافة إلى أسلحة خفيفة ومتوسطة وصواريخ مضاد للدروع، العربات التركية رباعية الدفع المضادة للألغام "Kirpi 2". وهي عربات من تصنيع شركة "BMC" التركية، وقد بدأت قوات الجيش التركي في استلام أولى دفعات هذه العربات عام 2014، وتمتلكها أيضا تركمانستان وقطر وتونس.
وتتميز هذه العربات بتدريع من المستوى الثالث ضد القذائف الخارقة للدروع وقذائف المدفعية، بجانب منظومة لرصد إطلاق النيران المعادية، ومقاعد ماصة للصدمات الانفجارية، مع إمكانية تزويدها بطائفة واسعة من الأسلحة المتوسطة وقواذف القنابل والصواريخ المضادة للدروع، والقمرات القتالية العلوية، بما فيها القمرات التي يتم تشغيلها بالتحكم عن بُعد. ويصل وزن هذه العربة الكلي إلى نحو 60 طنا، ويصل مداها العملياتي الأقصى إلى 1000 كيلومتر، وقد استخدمها الجيش التركي في عمليات انتشار قواته في مناطق خفض التصعيد شمالي سوريا. ولم يتم تحديد الأعداد التي وصلت إلى ليبيا من هذه العربات، ولكن التقديرات تشير إلى أنها ما بين 20 و40 عربة.
آخر إشارات هذا الدعم التركي كان تأكيد تزويد أنقرة مليشيات السراج بالطائرات التركية الهجومية دون طيار Bayraktar TB2، وقد تم تأكيد هذا التواجد بعد نشر تسجيل مصور يظهرها أثناء استعدادها للهبوط في قاعدة معيتيقة الجوية في طرابلس، ثم ظهور صور لمحطتي تحكم خاصتين بهذا النوع بعد وصولها إلى طرابلس الشهر الماضي.
يذكر هنا أن الجيش الوطني الليبي أعلن، خلال الأسابيع الماضية، إسقاط وتدمير3 طائرات على الأقل من هذا النوع؛ اثنتان منها خلال غارتين جويتين منفصلتين على قاعدة معيتيقة الجوية خلال يونيو الماضي، وواحدة قرب قاعدة الجفرة الجنوبية وسط ليبيا الشهر الماضي. وقد تم الكشف مؤخراً عن خلية عسكرية تركية مكونة من 16 شخصا تضطلع بمسؤولية تشغيل هذه الطائرات في الأجواء الليبية تحت قيادة الفريق "عرفان أوزسيرت" الضابط في الاستخبارات العسكرية التركية وأحد المحاضرين في الأكاديمية العسكرية التركية.
وقد دخلت هذه الطائرة الخدمة في سلاح الجو التركي أواخر عام 2014، وتمتلكها أيضاً أوكرانيا وقطر، وتبلغ قدرة محركها 100 حصان يوفر لها سرعة قصوى تبلغ 220 كيلومترا في الساعة، ويصل مداها الأقصى إلى 150 كيلومترا، بارتفاع تحليق يصل إلى 8 كيلومترات، والقدرة على التحليق بشكل متواصل لمدة تصل إلى يوم كامل. تتسلح هذه الطائرة بحمولة تصل زنتها إلى 55 كيلوجراما، ويتكون تسليحها الأساسي من صواريخ تركية الصنع مضادة للدروع من نوع "UMTAS" من تصنيع شركة "روكيستان"، وهي صواريخ موجهة بالليزر يصل مداها الأقصى إلى ثمانية كيلومترات. وقد استخدم الجيش التركي هذه الطائرة في عدة عمليات قتالية ضد حزب العمال الكردستاني في سوريا والعراق، وقد تم إسقاط إحداها أوائل العام الماضي قرب مدينة عفرين شمالي سوريا.
يضاف إلى ما سبق تحليقات شبه يومية لطائرة الإنذار المبكر "BOEING 737 PEACE EAGLE" التابعة لسلاح الجو التركي قبالة الساحل الليبي. وهذه الطائرة تضاف إلى مجموعة من طائرات الاستطلاع الإلكتروني والمراقبة التابعة لعدة دول تعمل قبالة الساحل الليبي، مثل الطائرات الإيطالية "ATR P-72A MPA" و"B350 R"، والأمريكية "RQ4-R09"، واليونانية "Embraer ERJ-145H" وحلف الناتو "BOEING E3A".
التكتيكات العسكرية لمليشيا السراج
على المستوى الميداني، لا يمكن أن نحدد بشكل قاطع ما هو التكتيك الذي تتبعه القوات الموالية لرئيس المجلس الرئاسي في طرابلس فايز السراج، لأنها في الواقع مليشيات متعددة تفتقر إلى الانضباط العسكري وإلى السيطرة على أفرادها، وهذا كان بارزاً حتى خلال المعارك مع الجيش الوطني الليبي، حيث اشتبكت مليشيا ما يعرف بـ"بشير البقرة" مع مليشيا أخرى تسمى "الردع"، وأدى هذا الاشتباك إلى أضرار في المطار الوحيد المتبقي تحت سيطرة مليشيات السراج، وهو مطار معيتيقة، وكان من ضمن هذه الأضرار طائرة النقل الاستراتيجي الوحيدة من نوعها في ليبيا "أنتونوف 124".
بشكل عام، تتبع هذه المليشيات أسلوبين في عملياتها القتالية؛ الأول هو أسلوب متنوع نجد فيه القصف العشوائي سواء للمناطق المدنية أو العسكرية، ونجد فيه أيضا محاولة خداع قوات الجيش الوطني الليبي عبر إيهامها أن بعض عناصر مليشيات السراج سوف تستسلم لهم مثلما حدث سابقاً في مناطق شرقي الزاوية خلال الأيام الأولى لمعركة طرابلس، وفيه أيضا أسلوب "الصدمة والرعب"، حيث تقوم المليشيات بارتكاب مجازر في حق الأسرى من الجيش الوطني مثلما حدث مؤخراً في مدينة غريان جنوبي العزيزية.
أما الأسلوب الثاني تقوم فيه هذه المليشيات ومن يتحالف معها من مجموعات إرهابية مثل تنظيم داعش ومجلس شورى مجاهدي بنغازي وغيرهما، بشن هجمات مختلفة على مواقع للجيش الوطني بعيدة عن مسرح القتال، فخلال الأسابيع الماضية هاجمت عناصر إرهابية منظومة النهر الصناعي في منطقة شمالي الشويرف جنوب غرب البلاد، وهاجمت عناصر تشادية مدينة مرزق، وحدثت عدة هجمات لتنظيم داعش على مناطق غربي جبال الهروج مثل تمسه والفقهاء.
وقد بدأ الجيش الليبي -منذ يومين- في عمل دوريات مكثفة للمنطقة الجنوبية ومنطقة الجفرة لتأمينها، وذلك للحيلولة دون تكرار هذه الهجمات التي تشتت مجهود القوات الموجودة في طرابلس. كما أحبط سلاح الجو الليبي خطة من جانب مليشيات السراج للهجوم على أجدابيا من مناطق غربي العقيلة وسرت.
استمرار عمليات طرابلس
بشكل عام حققت قوات الجيش الوطني خلال أكثر من شهرين من المعارك تقدماً لافتاً في محاور الجنوب، عدا محور قصر بن غشير ومطار طرابلس الذي تحافظ فيه على مواقعها في المطار والأحياء البرية برغم تعرضها لهجمات شبه يومية من جانب مليشيات السراج، وقد شمل التقدم محاور عين زارة وخلة الفرجان وصلاح الدين المؤدية إلى وسط العاصمة، بجانب محور طريق صلاح الدين الذي يقع جنوبي شرق العاصمة.
ومن المتوقع أن تفعل قوات الجيش الوطني محاور قتالية جديدة لتشتيت القوة المتوفرة لمليشيات السراج في طرابلس، فقريباً يتم تفعيل محورين في اتجاه شرقي العاصمة؛ الأول من شرقي مدينة ترهونة في اتجاه مدينة الخمس الساحلية، والمحور الآخر يقع إلى الشمال منه في اتجاه القره بوللي على الطريق الشرقي المؤدي إلى العاصمة.
كما يتوقع أن تعيد قوات الجيش الوطني تفعيل المحور الغربي للعاصمة، خاصة أن وحدات تابعة للجيش وتحديداً لكتيبة سبل السلام وصلت بالفعل إلى مدينة صرمان غربي الزاوية، كما توجهت إلى تخوم غريان جنوبي العزيزية وحدات من القوات الخاصة والكتيبة 153 قادمة من الجفرة.
وقد بدأ الجيش الوطني خلال الساعات الماضية في إعادة تكوين مركز قيادته ليصبح في مدينة ترهونة الواقعة على بعد 60 كيلومترا جنوب شرق العاصمة طرابلس، وقد زار المشير خليفة حفتر، القائد العام للجيش الليبي، المدينة دعماً لمعنويات قواته التي تمكنت خلال الساعات الماضية من صد هجمات عنيفة لمليشيات السراج على منطقة أسبيعة الواقعة شرقي العزيزية، وعلى منطقتي وادي الربيع وعين زارة جنوبي طرابلس.
إجمالا، إذا ما استمر تقدم قوات الجيش الوطني في اتجاه ربي أسبيعة فإنها قد تتمكن من السيطرة على العزيزية وقطع التواصل بين العاصمة ومليشيات السراج الموجودة في مناطق الهيرة والقواسم وغريان وأبوشيبة. بدأت كذلك قوات الجيش في تأمين المناطق الواقعة شرقي غريان لمنع أي محاولات للتقدم في اتجاه ترهونة.
أما الخيار المحتمل اتخاذه من جانب وحدات الجيش الوطني خلال الأيام المقبلة، فيتلخص في توسيع وتيرة التقدم في المحاور الأخرى، بشكل يتم فيه فصل العاصمة إلى شطرين؛ شطر شرقي وآخر غربي تقع في جنوبه المناطق التي وصلت إليها مليشيات السراج جنوبي العاصمة مثل العزيزية وغريان والهيرة والقواسم.
** محمد منصور: محلل عسكري متخصص في الشأن الليبي
aXA6IDMuMTUuMjI4LjE2MiA= جزيرة ام اند امز