حسابات الحسم في معركة طرابلس
تظهر عملية الانتشار ومسارات الحركة لقوات الجيش أن الخطة التي تم إعدادها تعتمد على تكتيك مرن وفقا لما تمليه قواعد الاشتباك مرحليا.
يعكس الخطاب التعبوي للعملية العسكرية التي يشنها الجيش الليبي تحت عنوان "تحرير العاصمة طرابلس"، توجه القيادة العامة للجيش نحو إحداث تحول شامل في المشهد الليبي بغية إعادة تشكيل الخريطة السياسية بالنظر لدلالات وزنها الاسترايتجي في الحسابات السياسية بشكل عام على الصعيدين الداخلي والخارجي وما سيشكله ذلك من تداعيات على مستقبل العملية السياسية.
وانطلاقاً من هذا التصور، فإن مقاربة الحسم العسكري في معركة طرابلس "طوفان الكرامة" تبدو مختلفة قياساً على المعارك السابقة التي خاضها الجيش الليبي في الشرق والجنوب، فرغم ما تشكله تلك المعارك من فائض قوة لمعركة طرابلس استناداً إلى معطيات موازين القوى الحالية وحسابات السيطرة الميدانية إلا أن مستوى التحديات بالنظر إلى طبيعة القوى المضادة على الجانب الآخر من حيث نمط تسليحها وروافد دعمها، لاسيما الخارجية، إضافة إلى طبيعة مسرح العمليات وإمكانية إدارة معركة مسلحة بأقل مستوى ممكن من الخسائر البشرية، للحد من خطر الانزلاق إلى الحرب الأهلية المفتوحة، ما يؤكد ضرورة الحذر بشأن السيناريوهات المحتملة للعملية الحالية.
الأهداف والدوافع
وفقاً لما تم الإعلان عنه فى البيان الأول لإطلاق العملية، فإن الهدف الرئيسي هو إنهاء هيمنة عشرات المليشيات "الإرهابية" على العاصمة طرابلس، التي وصفها المتحدث باسم الجيش اللواء أحمد المسماري، أنها قوى غير وطنية "تختطف طرابلس" من أجل مصالح ضيقة ولحساب قوى خارجية، لا سيما تركيا وقطر، ومع تطور الاشتباك العسكري والسياسي، رفع سقف الأهداف إلى عملية إزاحة حكومة الوفاق من المشهد السياسي، باعتبارها تفتقد إلى مشروعية البقاء في ظل شرعنتها لدور المليشيات وأدائها السياسي داخلياً وخارجياً.
كما ترتبط الدوافع بطبيعة اللحظة السياسية الراهنة في الداخل والمحيط الليبي، فعلى الصعيد الداخلي كانت هناك استعدادات تقوم بها بعثة الأمم المتحدة في ليبيا لعقد المؤتمر الوطني الجامع منتصف أبريل/نيسان الجاري، وهى الخطوة التى يرفضها الجيش والبرلمان كونها ستعيد تمكين القوى السياسية والمليشاوية المهيمنة على القرار السياسي والمؤسسات والمصالح في الغرب بضمان مظلة "شرعية" المجلس الرئاسي وبرعاية الأمم المتحدة، وكمؤشر على تأكيد الجيش لرفض هذا المسار ومخرجاته، أطلقت عملية "طوفان الكرامة" قبل يوم واحد من زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش إلى ليبيا، ورفض الاستجابة إلى دعواته لوقف العملية.
كذلك فإن تطورات الأوضاع في دول الجوار الليبي، وتحديداً الجزائر والسودان يشكل فرصة مواتية لمثل هذا التحرك؛ حيث غالباً ما كانت دول الجوار تفرض ضغوطاً على مثل تلك التحركات، وتشكل عامل دعم للمجلس الرئاسي بليبيا، ولكن في ظل انشغالها الداخلي في أعقاب الإطاحة بالنظم الحاكمة فيها فإن هناك فرصة لتخفيف ضغط هذا المحور.
التمهيد للمعركة
المحور الرئيسي فى مرحلة التمهيد للمعركة اعتمد على عامل المفاجأة واستثمار المكتسبات اللوجستية لمعركتي الشرق والجنوب، بما يؤمن خطوط الإسناد الخلفية لقوات الجيش ويعزز من قدراته في التحرك نحو العاصمة، في إطار التوافقات والتفاهمات مع الدوائر القبلية والسياسية، إضافة إلى توظيف مظاهر الانقسامات والنزاعات المليشياوية في طرابلس خلال المرحلة السابقة، ثم الاعتماد على وجود حواضن شعبية في الغرب التي ترفض استمرار نهج "الرئاسي" وحلفائه كونه يقود المشهد الليبي إلى مزيد من الفوضى وتعزيز حالة الانقسام في البلاد.
الأداء الميداني
تظهر عملية الانتشار ومسارات الحركة لقوات الجيش أن الخطة التي تم إعدادها تعتمد على تكتيك مرن، وفقاً لما تملية قواعد الاشتباك مرحلياً، انطلاقاً من محاور استراتيجية تسهل إمكانية الاختراق سريعاً للوصول نحو الهدف، مع إنشاء مناطق عازلة على محاور التشيبك وخطوط إمداد القوى المناوئة ومحاولة السيطرة على المواقع الاستراتيجية كالمعسكرات والمطارات. وفي المقابل جاء التصعيد المضاد من مليشيات الغرب بعد دعوة "الرئاسي" للنفير في مواجهة الجيش، واعتمدت بدورها على تكتيكات موازية في المواجهة منها تشكيل هيكل مواز من المليشيات تحت مظلة واحدة تديرها غرفة عمليات، وإطلاق عملية مقابلة تحت اسم "بركان الغضب"، وبث الخطابات الدعائية والحماسية الموازية لاستقطاب المؤيدين إلى الانخراط في المواجهات، واستعراض القوة لإظهار أن المعركة لن تكون سهلة وسريعة.
وبالنظر إلى خريطة المليشيات في طرابلس، فإن كتائب مصراتة وغيرها من المليشيات تعاني من نقاط ضعف عديدة في مقدمتها شيوع التطرف الديني ومن ثم العسكري بتبيانات ما، وهو ما انعكس على خريطة المحاصصة الأمنية في العاصمة، فما تسمى بقوة الردع الخاصة تهمين عليها "السلفية المدخلية" وهي بحكم البنية الأيدلوجية تعوق العملية السياسية؛ حيث ترفض الديمقراطية والانتخابات، كذلك الحرس الوطني، وهو مكون من مليشيات مقاتلة تسيطر عليها السلفية الجهادية، ولا يختلف كثيراً عن اللواء السابع الذي تسيطر عليه قيادات قاعدية متطرفة، وعلى النمط ذاته باقي الكتائب إما المؤدجلة أو المناطقية ككتائب النواصي، والبقرة، وأبوسليم، والحبلوص، والمحجوب، وثوار طرابلس، وبالتالي فإن هذا المكون لا ينسجم مع الخطاب السياسي للرئاسي وحلفائها، بأن الجيش يخوض معركة لتقويض الدولة المدنية الناشئة ويهدف إلى عسكرتها، ومن جهة أخرى لا يفترض أن قوى متطرفة ستسهم في عملية سياسية منضبطة، أو تقبل بالاندماج في منظومة أمنية وبالتالي فإن القوى الدولية والمحور العربي الداعم للجيش من صالحه تقويض هذه البيئة التي يغلب عليها طابع التشدد وتعزز بيئة عدم الاستقرار السياسي وبإمكانها تقويض أي عملية انتقال سياسي في المستقبل إن ظلت لاعبة في المشهد.
ووفقاً للتحركات الميدانية، فإن الأسبوع الأول من العملية هو مرحلة اختبار لموزاين القوى واستكشاف خطوط الحركة وجبهات الدعم وحجم وتكاليف المعركة، بالنظر إلى اختلاف طبيعة معركة طرابلس باعتبارها نمطاً لحروب المدن، ما يفرض محاذير وضوابط معينة على الجيش، وهو ما يتضح في عدة ملامح تشكلت خلال الفترة الأولى من المعركة ومنها:-
-تسجيل أهداف على محاور التقدم، فالجيش يعمل على التقدم من 7 محاور، وفقاً للمتحدث باسمه، فى محاولة لفرض حصار على المليشيات منعاً لحدوث ثغرات، لكنه يتقدم في ثلاثة منها، كما كسب العديد من النقاط في رشفانة وغريان- 100 كلم – باتجاه المحور الجنوبي، وصبراتة وصرمان 60- كلم – باتجاه الغرب في الأيام الأولى للمعركة.
- محاولة امتصاص مليشيات طرابلس الضربة الأولى، واستعادة التوزان، وتحويل المسار من تقدم إلى عمليات كر وفر واستنزاف قوات الجيش ودفعه إلى التصعيد واستخدام واسع للطيران في قصف العديد من الأهداف والتمركزات الخاصة بتلك المليشيات، لإظهار مدى صعوبة المعركة، وتحويلها في حال تسجيل اختراق إلى حرب شوارع بهدف دفع القوى الدولية إلى ممارسة ضغوط لوقف العملية العسكرية.
مواقف القوى الدولية والإقليمية من المعركة
تكشف حالة التفاعل الدولي مع المعركة عن التعاطي معها بمنطق الاختبار المتدرج لاستكشاف مستوى التحرك والتحرك المضاد، وما يمكن أن تفرضه المعركة من تداعيات، حيث كان العنوان الغالب للمواقف الدولية هو إصدار بيانات تدعو للعودة إلى الحل السياسي وعدم اللجوء للحلول الأمنية، وبعضها تضمن انتقاد تحرك الجيش، لا سيما من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا، لكن المتغير في هذا السياق هو الدخول الروسي على الخط بشكل أكثر فاعلية؛ حيث تم تعطيل صدور "بيان" من مجلس الأمن لوقف تحرك الجيش، تبعها خطوة لاحقة عرض المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، إمكانية قيام موسكو بالوساطة بين الجانبين.
وفى هذا السياق تنتقل ليبيا إلى مرحلة أخرى من التفاعلات الدولية، مع تصاعد حالة التنافس الدولي في رفع روسيا لدرجة انخراطها في الملف الليبي، وهو ما يشكل عامل ضغط على القوى الأوروبية، خاصة الدول ذات النفوذ التقليدي على الساحة الليبية كفرنسا وإيطاليا، قد يدفعها إلى تغير مواقفها من الجيش، وهناك مؤشرات على ميل فرنسي – إيطالي إلى دعم التحرك العسكري - ولو مؤقتاً وبشكل غير علني- ربما لدوافع برجماتية؛ حيث تفضل تلك الدول إنهاء أو تقويض حالة "الملشنة" الطاغية على العاصمة والضاغطة على المشهد السياسي وصعوبة التفاهم مع هذا الكم منها وكل منها يميل بالتأكيد إلى تحقيق مصالحه، في حين أن القيادة العسكرية قدمت سابقة على أنها تتعامل بسلوك الدولة فمع سيطرتها على حقول النفط في الشمال والجنوب، مكنت مؤسسة النفظ الحكومية من إدارتها وتحصيل عودائها، على عكس المليشيات التي تجني أرباحاً خاصة من السيطرة على مقدرات الدولة وتخدم حالة الفوضى وأجندات تنظيمات العنف والتطرف.
إجمالاً، يمكن القول إن هناك صعوبة فى التنبؤ بما ستؤول إليه نتائج المعركة، لكن هناك عدة احتمالات أولية تتعلق بمسارها الحالي ومنها على سبيل المثال:-
- أولاً: في حالة نجاح الجيش في فتح جبهة من محاور الجنوب أو الغرب باتجاه قلب العاصمة، فقد يدفع ذلك بعض المليشيات إلى العودة لخطوطها الخلفية، لاسيما كتائب مصراتة، خاصة أن هناك مؤشرات على أن الجيش يضع معركة مصراتة في حساباته، وهو ما يجعل تلك المليشيات في خيارات صعبة بين الدفاع عن العاصمة التي تمثل معركة "المصير" بالمنطق السياسي، أو الدفاع عن نفسها في معركة "الوجود" بالأساس في مصراتة. وهو ما يعني أن معركة طرابلس لن تكون آخر المعارك بما سيتولد عنها من معارك فرعية لكنها تبقى معركة الحسم سياسياً واستراتيجياً.
- ثانياً: ربما يفرض مسار المعركة الحالي صعوبة تحقيق اختراق في المدى الزمني القصير، وبالتالي تظل المعركة مرحلياً عبارة عن مباراة تسجيل أهداف بين الطرفين، وهو ما سيلقى بالمزيد من التحديات على عاتق الجيش، خاصة لو تمكنت القوى المضادة من التحول من الدفاع إلى الهجوم المضاد، وبالتالي فإن هذا السيناريو سيفرض على الجيش استخدام أدوات أوسع مثل الطيران، وهو ما سينقل المعركة إلى مربع آخر في شكل العمليات.
- ثالثاً: سيناريو تحويل مسار المعركة إلى حرب شوارع حال أدركت المليشيات صعوبة استمرار الصمود في مواجهة الجيش، خاصة إذا سجل الجيش نقاط اختراق باتجاه الوصول إلى قلب العاصمة، وستجد هذه المليشيات في حرب الشوارع نموذجاً مثالياً لتحقيق غاياتها، خاصة أنه يوائم نمط هياكلها وتسليحها، كما يشكل هدفاً سياسياً للمجلس الرئاسي كورقة ضغد جديدة لدفع القوى الدولية، لاتخاذ موقف يحول دون سيطرة الجيش على طرابلس ونجاح حملته.
- رابعاً: توقف المعركة بفعل متغيرات تؤثر على استمرارها، ما قد يدفع الجيش إلى التفكير في قبول وساطات أو إبرام هدنة مؤقتة، وربما إبرام صفقة، وفي هذه الحالة ستوزان القيادة العسكرية بين ما عوائد أي من تلك الخيارات وبين تكلفة الاستمرار في العملية العسكرية.
aXA6IDE4LjIyMy4xMjUuMjM2IA== جزيرة ام اند امز