وعايزني أكسبها!.. بين الحلاج ومحمود المليجي
تُمثِّل مسرحية "مأساة الحلاج" للشاعر صلاح عبدالصبور، التي كتبها عام 1966، تحولاً كبيراً في المسرح الشعري.
خرجت عن تقاليد الصوت الواحد واعتمدت على أسلوب الحوار المسرحي، واستلهم الشاعر من قراءاته العميقة للفلاسفة والمتصوفة العرب ليطوِّر أفكاره بجرأة، مُنشئًا جسراً بين اللغة العربية وأصولها وفصاحتها وصورتها الحية.
وعلى الرغم من أن المسرحية تركز على حياة المتصوف العربي الحلاج (الحسين بن منصور)، الذي توفي عام 922 مـ، فإنها تحمل أبعادا سياسية تسلِّط الضوء على تمسك الصوت المعارض برسالته، مُستخدما الحب والرحمة كوسيلة لنشر أفكاره، في مواجهة البغضاء والكره الذي ينشره السلطان ليحوِّل الفقراء إلى أتباع لسياساته.
الشبلي: يا حلاج اسمع قولي
لسنا من أهل الدنيا حتى تلهينا الدنيا
أسرعنا لله الخطو العجلان، فلما أضنانا
الشوق الظمآن.. طرنا بجناحين
استخدم صلاح عبدالصبور في مسرحيته بناءً فنياً ولغوياً مميزاً، حيث امتزجت رؤيته الشعرية بالفلسفية، ليتجلى الصراع الكامن بين شخصية الشبلي والحلاج كأنه صراع مع الذات.
استخدم طبيعة الحوار بينهما كأقنعة لأفكاره وتصوره السياسي، فكانت المناظرة في هذا المقتطف هي صدى لصوت الشاعر الداخلي الذي أراد أن يصل إلى المتلقي.
الحلاج: لكن.. يا أخلص أصحابي، نبئني
كيف أميت النور بعيني
هذي الشمس المحبوسة في ثنيات الأيام
في حوار عميق بين الحلاج وصديقه الشبلي، اللذين يُجسدان طرفي الصراع الداخلي الذي يواجه أي مفكر: هل يكتفي بنشر أفكاره أم ينبغي عليه أن ينقل ما يؤمن به إلى الناس؟
في هذه المناظرة، الشبلي يعبّر عن خوفه من أن تنزل رسالته إلى مستوى العوام، ويرتعب من الاختلاط بالناس لئلا يلوث قلبه ويغرق في جدالات لا طائل منها، لكن الحلاج يوضح له أن نشر الكلمة هو سلاح لمواجهة الشر، وهو حق الفقراء والجوعى.
لا يطيق الحلاج رؤية المظلومين والمحرومين أو أولئك الذين فقدوا حريتهم بسبب ظلم السلطان، ويقلقه أن يسأله الناس عن العدالة قائلاً: "أين الله مما نعانيه؟".
الحلاج: أما ما يملأ قلبي خوفاً
يضني روحي فزعاً وندامة
فهي العين المرخاة الهدب
فوق استفهام جارح
أين الله؟
ما يؤمن به الحلاج من عدالة وتسامح وحب ومساواة هو في جوهره نشر لنور الله بين الناس، إذ إن الله هو العادل والغفور والرحيم بخلقه.
دفاع الحلاج عن الفقراء والمظلومين ضد القهر والطغيان هو مقاومة للشر الذي استولى على ملكوت الله وأظلم القلوب والعقول.
لم يهتم الشيخ المتصوف بتهديد السلطان أو نقد الأصدقاء لأفعاله، بل كان همه أن يوصل كلمته للناس، لعلها تجد مكاناً في قلوبهم فتضيئها، وتجذبهم إلى مجالسهم فتؤمنهم، وتسير معهم في طرقاتهم فتدلههم.
الحلاج: يا شلبي
الشر استولى في ملكوت الله
حدثني.. كيف أغض العين عن الدنيا
إلا أن يظلم قلبي
الشبلي: مهلاً.. مهلاً
بل أنت الآن على حافة أن يُظلم قلبك
الحلاج: لا بل إني أتنور من رأسي حتى قدمي
ويصرخ سؤال "الشبلي" الذي أراد أن يتخفى وسط غيوم السماء في بداية المشهد، أو يضيع بين طرقات ساحرة من نور الله، لتأتي كلماته تختنق في سطورها لتنظم باكية شعرية هي الأروع والأصدق في تاريخ المسرح الشعري.
لكني ألقي في وجهك بسؤال مثل سؤالك
قل: مَن صنع الموت؟
قل: مَن صنع العلة والداء؟
قل: مَن وسم المجذومين؟
.. من ألقانا في هذي الدنيا مأسورين
لنغض بمشربنا ونشاك بمطعمنا
نتنفس أبشع رائحة صاعدة من رجع
حلوق الموتى
وربما لا بد أن تعلق بذهنك أسئلة "الشبلي" القاسية وأنت تذهب معي لمشهد آخر من فيلم "إسكندرية ليه؟" من إخراج يوسف شاهين، حيث يظهر بالمشهد إبراهيم الذي يتم اعتقاله، فتنتدب له المحكمة الأستاذ "قدري"، المحامي الساخر الطيب، الذي يوافق على الترافع في القضايا التي يؤمن بعدالتها حتى ولو تأكد من خسارتها.
• خلصت اللي عندك؟ قسمتك بقى أني أنا أترافع عنك عاجبك مش عاجبك هترافع عنك.
= الله! قلتلك مش عايز محامي أتفضل.
• أنت يابني خايف لأكسب القضية؟ من الناحية دي اتطمن هخسرها ، ٩٩% هخسرها وهيحكموا عليك وهيكون حكم قاسي قوي وللمرة المليون هيقولوا عليا محامي حمار، نعمل إيه قسمتنا كده حمار بيترافع عن حمار.
= طب لما أنت عارف إنك هتخسرها جاي ليه؟
في هذا المشهد، يقف المحامي الأستاذ قدري والمتهم الثوري إبراهيم داخل الحجز معًا، وكأنهما يشتركان في نفس المصير.
يواجه قدري تعنت الشاب ورفضه بابتسامة ساخرة، موضحًا له أن الاقتناع بغياب الأمل لا يعني الاستسلام، وإنما أراد المساعدة بالترافع، عساه أن يجد "تنفيسة" له وللمتهم في توصيل آرائهم أمام الناس.
• تنفيسة، تنفيسة ليّا وليك كلمة حلوة نقولها، صحفي يلقط منّا لمحة نظيفة، قاضي تفلت منه كلمة شجاعة، أهي تنفيسة للكل.
يدرك الأستاذ قدري أنه يواجه مصيرًا مجهولًا، وعدم يقين من وصول رأيه للجميع، وأنه لن يكسب القضية. لكنه كصاحب رأي لا ييأس من توصيل صوته، ويدافع عن الذين ليس لهم أحد، تمامًا كما أراد الحلاج أن يفعل.
وقد أوضح لإبراهيم كل المقدمات التي تفضي إلى خسارة القضية، من تبرير قتل الأبرياء والتضحية بالشباب في حروب عبثية، تمامًا كما أوضح الحلاج للشبلي مصير المعذبين والمظلومين تحت سياط الجلاد.
الأستاذ قدري، حكيم ومحب للحياة، بسيط ونقي يدخل القلوب. يواجه التناقضات التي تحاصره، ولا يريد إلا إخراج كلماته للنور رغم ما يعانيه من صعوبات وتضييق، ورغم من يلتفون حوله لإثنائه عن مواقفه المعارضة فيتهمونه بالفشل، من زوجته وحماته وحتى صديق طفولته.
• زمن، زمن يبرروا فيه إنهم يرموا البُمب على دماغ ناس مالهاش دعوة بالحرب خالص وعايزني أكسبها!
• زمن بتتشوي فيه ناس بالأفران علشان لون جلدها أحمر ولا أصفر ولا عنيها مسبسبة وعايزني أكسبها!
• زمن بيلموا فيه ولاد الناس سن ١٦ و١٧ سنة وبيدفنوهم تحت الرمل باسم الحريات الأربعة وعايزني أكسبها!
• زمن بيكسبوا فيه فرد واحد خمستلاف جنيه في الدقيقة ويغلوا على التاني أجرة الطروماي وعايزني أكسبها!
وفي إمعان بالسخرية المريرة، لم يسجل يوسف شاهين مشهد المرافعة، بل نقل المشاهدين مباشرة إلى إعلان المحكمة بخسارة القضية. خرج الأستاذ قدري من المرافعة مبتسما، وكأنه يعلن رضاه بتوصيل ما أراد للجماهير.
ينتقل المشهد من كادر ضيق للحجز وقضبانه إلى كادر أوسع وأعمق لساحة المحكمة، فالفسحة تكمن في خروج الكلمة للناس، والضيق في إبقائها داخل الصدور.
وينتهي المشهد بإعطاء المحامي والمتهم ظهريهما للقاضي، إعلانًا عن رفضهما للظلم، وسط مزيج من موسيقى الجاز التي تعلن برشاقتها انتصارا لحرية الكلمة.
aXA6IDMuMTQ0LjEyMi4yMCA= جزيرة ام اند امز