مصر الرسمية الوسطية السمحة استطاعت أن تمتص الأزمة بسرعة شديدة قبل أن تتفاقم
أيهما أفضل فتح الجراحات الثخينة وتطهيرها لقطع الطريق على أي مضاعفات تؤدي بحياة الجسم كله، أم المواراة والمداراة ودفن الرؤوس في الرمال، كما النعام الذي يتعامى عن مواجهة الكارثة القائمة والقادمة؟
ما جرى الأيام القليلة الماضية في مصر يستدعي حديثا رائقا بدماغ بارد قادر على التفكير من غير عاطفة أو انفعال، إذ تبين لنا من جديد أن حملة مفاتيح الجنة وأصحاب مغاليق الجحيم لا يزالون يعيثون فسادا، مهددين الأوطان والإنسان، من جراء رؤيتهم التي يجزمون أنها الحقيقة المطلقة وما دونها باطل وفاسد.
إننا في حاجة إلى مراجعة خطابات كثيرة، وليس الخطاب الديني فقط، نحن بحاجة لمراجعة الخطاب الإعلامي، والتعليمي، أولا وقبل كل شيء، فمن خلال هذين المسارين يمكن للأمم أن تتبوأ معارج الفضية، أو تنزلق إلى مدارك الهاوية
متناقضات القدر مثيرة ومدعاة للتأمل، ففي حين كان الدكتور مجدي يعقوب يتم تكريمه ضمن صناع الأمل، ويوشحه الرجل الذي تجرأ على الأمل، ولم يعرف المستحيل، حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد، بوشاح الأمل، كان جدل عقيم آخر ينشأ على ضفاف النيل، تسبب فيه أحد الدعاة من أصحاب التوجهات السلفية، والمشهور من قبل بمواقفه الجدلية، وبعباراته التي تقسم المجتمع تقسيما، وتفت في عضده لا سيما أنها تتناول حديث المطلقات، والعقائد الدينية، الأمر الذي لا يقبل فلسفة المؤامرات، كما تعلمنا الفلسفة.
الشيخ المشار إليه ليست هذه هي المرة الأولى التي يتناول فيها الآخر بوصفه القيم على الحياة الأخرى، وأنه القادر على تحديد أصحاب الجنة، والهالكين في النار، مع أن القرآن الكريم، يتسم برحابة غير عادية في مسألة الإيمان والكفر، والآيات البينات واضحة وضوح الشمس في ضحاها:
"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، "لكم دينكم ولي دين"، إلى آخر منظومة اتساع العقل والقلب، وبعيدا عن ضيق التطرف الدوجمائي الذي تسبب عبر العصور في مهالك لا يزال التاريخ يذكرها بالأسى والأسف.
باختصار غير مخل، اعتبر الداعية الشاب أن مجدي يعقوب ولخلفيته العقائدية هالك وفي الدرك الأسفل، مهما قدمت يداه من أعمال الخير، الأمر الذي أثار ثائرة الغاضبين في صفوف المصريين بكل توجهاتهم العقائدية والفكرية، والذين تساءلوا في صوت واحد: "من أعطاك سلطان تقرير الناجين والهالكين؟ ومن أي جهة تسلمت مهمة تقنين مشاهد الحياة الأخرى؟".
نجحت جهود التنويريين في تحريك الجهات الرسمية لتأخذ موقفا تجاه الداعية الشاب، غير أن حوار الفتنة كان قد انطلق، وللموضوعية والأمانة، نشير إلى أن هناك أصواتا على الجانب العقائدي المصري الآخر، يذهبون مذهب الداعية مثير الفتنة كما وصف من قبل دار الإفتاء، ويلوكون الألفاظ عينها التي تقصر الجنة على أتباعهم ومريديهم، وهنا الكارثة وليس الحادثة.
والشاهد أن مصر الرسمية الوسطية السمحة استطاعت أن تمتص الأزمة بسرعة شديدة قبل أن تتفاقم، فكان استقبال رئيس الوزراء المصري للدكتور يعقوب تكريما له بداية، وجاء بيان دار الإفتاء المصري لينزل بردا وسلاما على قلوب عقول الجميع، بعد أن أشاد بطبيب القلب العالمي، وبما حصله من علم ومعرفة وخبرة أذهلت العالم، كانت نتيجة جهود مضنية وشاقة قد وضعها كلها مسخرة في خدمة وطنه وشعبه، ولم ينظر يوما ما إلى دين من يعالج وينقذ، بل بعين الشفقة والرحمة والإنسانية التي امتلأ بها قلبه.
وسط هذا الجدل لم يكن مجدي يعقوب مهموما أو محموما بشيء من تلك المهاترات بالمرة، وجل همه كان ولا يزال استنقاذ أكبر عدد من القلوب الضعيفة، وإشاعة الأمل فيمن حوله، وهنا صدق الشيخ محمد بن راشد قولا وفعلا حين أشار إلى أن "صناعة الأمل هي الصناعة التي لا يخسر فيها أحد"، وبذلك يعد مجدي يعقوب من الفائزين حكما.
أخيرا جاء الاتصال الهاتفي من فضية الإمام الكبر الدكتور أحمد الطيب للدكتور مجدي يعقوب الذي هنأه فيه بوشاح محمد بن راشد للعمل الإنساني، معتبرا إياه فخرا لكل مصري وعربي، ليؤكد بالفعل أن المصريين في رباط إلى يوم الدين، وأن دعاة القلاقل لا محل لهم في الجملة المصرية المفيدة للبشر والحجر، وفي توقيت تسارع فيه مصر البناء والنماء، ومن حولها المؤامرات تمضي صباح مساء كل يوم.
أفرز المشهد الأخير كثيرا من الملاحظات الأولية، ومنها ما هو سلبي، وهو عينه ما يمكن أن يضحى إيجابيا، ونقصد بذلك طريقة التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي، التي تمثل جسورا للتواصل الفعال والخلاق عند البعض، ولدى البعض الآخر، تبدو جدران وكرات لهب مشتعلة تلقى في العقول والصدور، كفيلة بإشعال العالم بحرائق الطائفية، والأعراق، والأنواع، وسائل لا يمكن معها المنع أو المنح، وإنما تحتاج إلى ضمائر صادقة قادرة على الحسم والحزم لإفشاء السلام وإطعام الطعام، سواء كان روحيا أو جسديا.
الأمر الآخر: أظهرت إشكالية الجدل الأخير الحاجة الحقيقية لبناء مجتمع الأخوة الإنسانية، ذاك مضت الإمارات العربية المتحدة في طريقه في فبراير/شباط العام الماضي، وصدرته للناس في صورة وثيقة هي الأولى من نوعها، إذ وقعها بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وشيخ الجامع الأزهر، ما يعني أنها وثيقة عابرة لحدود الطائفية والتمذهب أو العنصرية.
من أرض الإمارات تتبدى واضحة مسيرة التسامح الإنساني القابل للآخر، وآيات الإمارات في هذا السياق كثيرة وعديدة، غير أن ما نود أن نلفت إليه الانتباه هو دور الدولة التقدمي في صون السلام الاجتماعي، وقد كانت الإمارات سباقة في هذا الإطار عبر القانون الذي صدر عام 2015 لمنع وتجريم ازدراء الأديان.
خلقت الإمارات مجتمعا نموذجيا من المواطنة التي لا تعرف إلا المساواة وتكافؤ الفرص، ولهذا باتت مقصدا للقاصي والداني من قارات الأرض الست، وفي هذا نجاح كبير لو يعلم القارئ، إذ أضحت الإمارات رسالة بأكثر منها دولة.
الجدل الأخير يؤكد أننا في حاجة إلى مراجعة خطابات كثيرة، وليس الخطاب الديني فقط، نحن بحاجة لمراجعة الخطاب الإعلامي، والتعليمي، أولا وقبل كل شيء، فمن خلال هذين المسارين يمكن للأمم أن تتبوأ معارج الفضية، أو تنزلق إلى مدارك الهاوية.
يشبه حال الذين انشغلوا من حول مجدي يعقوب ومصيره الأبدي مؤخرا، وإن كان من الفائزين أو الخاسرين في يوم الدين، حال ملوك الطوائف في الأندلس، أولئك الذين تصارعوا نهارا وليلا على تحديد جنس الملائكة، وهل هم ذكور أم إناث، بل وكم ألف ملك يستطيع الوقوف على رأس دبوس، في حين كان الأعداء على الأبواب، يخططون لنهاية الوجود العربي في الأندلس مرة وإلى الأبد.
الوطن مودات وشراكة أحلام وبعيدا عن أي محاصصة أخروية لا يعلمها إلا علام القلوب، وصاحب اليوم الآخر، والذي لم يوكل أحدا في محاسبة عبيده على الأرض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة