قديما قال أبوالطيب المتنبي المتوفى 965 م: "وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ ... إِذا احتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ"
قديما قال أبو الطيب المتنبي المتوفى 965 م "وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ ... إِذا احتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ"؛ وحالياً في الواقع العربي المعاصر يحتاج النهار إلى ألف دليل ليثبت أنه نهار، وليقنع بذلك أصحاب الأيديولوجيات العمياء، والانتماءات الطائفية المغلقة، وقطعان أحزاب الحركات التي توظف الدين لتحقيق مصالح سياسية. أولئك الذين لا يرون بعيونهم الحقائق الواضحات، وإنما يكتفون بما تراه عيون الآخرين، ويصدقون ما يقال لهم على الرغم من أن الواقع يكذبه، لأنهم يريدون أن يصدقوه؛ لأن غريزة الانتماء للجماعات الصغيرة تغلب على عقولهم، وتحول دون أن يكون العقل وسيلة للوصول إلى الحقيقة.
حيثما يذهب أردوغان يضغط من أجل إحياء التراث العثماني، حتى في بناء المساجد يشترط على كل من تتبرع له تركيا بمسجد أن يكون البناء على الطراز العثماني، على الرغم من أن المسلمين بنوا مساجدهم طبقا لثقافات المجتمعات التي عاشوا في كنفها
عندما يتكلم أردوغان في صلف وغرور وكبر عن قتل أكثر من ألفين من الجنود السوريين العرب مقابل ثلاثة وثلاثين من الأتراك المحتلين للتراب للسوري، وأن هذا الانتقام لا يساوي دماء الجنود الأتراك.. هنا تظهر بصورة لا تحتاج إلى توضيح قيمة الإنسان العربي مقارنة بالسيد العثماني في ميزان أردوغان. يتكرر هذا الخطاب بصورة دائمة عند حديث أردوغان عن أي مسؤول عربي؛ سواء أكان رئيس دولة، أو وزيرا؛ دائما تكون هناك نظرة فوقية فيها قدر كبير من الاستعلاء والكبر وعدم الاحترام.
عندما قتل قاسم سليماني مع أبومهدي المهندس؛ كان وزن وقيمة الدم الفارسي الأزرق أعظم بكثير من الدم العراقي المائي الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، دائما الإنسان الإيراني هو السيد، وهو الأعلى، وهو الأستاذ، وهو المرجع الذي ينبغي أن يكون دمه عالي القيمة، أما غيره فهم دائما أدنى وأقل.
هذه مجرد أمثلة واقعية يشاهدها ويعايشها الجميع لتوضيح حقيقة واضحة مثل شمس النهار في يوم صيف حار، النظم الحاكمة في إيران وتركيا نظم قومية عنصرية، متطرفة في عنصريتها سواء ضد مكونات عرقية وقومية تشاركها الوطن، وتخضع لها، وتعيش في دولتها، أو ضد دول، وشعوب تسعى لإخضاعها، واستتباعها. هناك في تركيا أكراد وعلويون وعرب وغيرهم، يعاملون دائما كمواطنين من الدرجة الثانية في الحقوق السياسية قانونياً، أو واقعياً، وتصرفات نظام أردوغان مع رؤساء البلديات الأكراد الذين فازوا في ممارسة ديمقراطية تجري في مناطقهم، انتخبهم فيها إخوانهم من نفس الخلفية العرقية، ولكن نظام الاستعلاء العرقي يرفض أن يكون الكردي حاكماً؛ حتى ولو على الكردي، فتم عزل معظمهم بحيل قانونية وسياسية مكشوفة للجميع.
في إيران يمثل العرق الفارسي حوالي النصف؛ طبقا للتقديرات الرسمية والنصف الآخر قوميات، وعرقيات أخرى أهمها العرب والكرد والآذريون والبلوش وغيرهم. نصف المجتمع لا قيمة، ولا وزن له في العملية السياسية، ولا حقوق سياسية حقيقية له، قد يكون لهم تمثيل في مجالس منتخبة، ولكن البنية الفعلية للنظام التي تملك القوة السياسية جميعها من العرق الفارسي.
الاستعلاء السياسي في تركيا وإيران هو الأقل خطورة وتأثيرا إذا قورن بالاستعلاء الثقافي والحضاري واللغوي، ففي هاتين الدولتين اللتين ترفعان شعار الإسلام؛ بل تدعيان اقتسام زعامة العالم الإسلامي السني والشيعي، كلتاهما تعلي اللغة القومية على لغة القرآن الكريم، بل إنهما تحاربان اللغة العربية، مثلما حدث في تركيا حين شنت حملة مكثفة لتغيير أسماء المطاعم والمحلات التي يملكها اللاجئون السوريون من العربية إلى التركية.
على الرغم من الخطاب الإسلامي الذي يرفعه كل من النظامين التركي والإيراني، فإن كل ما يقدمانه من تاريخ وحضارة هو تاريخ أجدادهم، وليس تاريخ مختلف شعوب وأقوام المسلمين، فحيثما يذهب أردوغان يضغط من أجل إحياء التراث العثماني. حتى في بناء المساجد يشترط على كل من تتبرع له تركيا بمسجد أن يكون البناء على الطراز العثماني، على الرغم من أن المسلمين بنوا مساجدهم طبقا لثقافات المجتمعات التي عاشوا في كنفها، فقد تبنوا النمط المعماري للشعوب التي عاشوا معها، ولم يتم تعميم نمط معماري واحد على جميع المسلمين.. فقط مع تركيا أردوغان يكون الشرط الأساسي لبناء مسجد أن يكون طبقا للنمط العثماني من جمهورية غانا في غرب أفريقيا، إلى نيوزيلندا التي عرض عليها مسؤول الشؤون الدينية في حكومة أردوغان بناء مسجد على الطراز العثماني فرفضت حكومتها.
كل من تركيا وإيران تستحضران التاريخ القومي العنصري، وتطلبان من الآخرين أن يتبنوا هذا التاريخ؛ حتى وإن كان ينفي تاريخهم، ويحتقر وجودهم، تركيا تطلب من العرب أن يعتزوا بالتاريخ العثماني، ويفتخروا بأنهم عثمانيون، وأن يقدسوا ويعظموا أرطغرل وعثمان وسليم وسليمان؛ على الرغم من أن هؤلاء جميعا كانوا قتلة، ومجرمين في حق العرب والشعوب التي عاشت في أرضهم.
تركيا وإيران تؤسسان لمرجعية دينية وثقافية تستخدم كل طاقة ومخزون الدين الإسلامي لترسيخ الاستعلاء العنصري للقوميات العثمانية والفارسية، وللأسف هناك من يسوق ذلك من بين العرب، ويوظف كذلك كل قيم الإسلام، وكل آلام وآمال المسلمين لتخديرهم، وإخضاعهم للسيد العثماني، أو المرجع الإيراني، وفي كلتا الحالتين يتحول الإسلام الى وسيلة لتحقيق طموحات وأحلام عنصرية عرقية للترك والفرس.
حقيقة لا تحتاج الى دليل أن العثمانيين الجدد يسعون لاستغلال شعارات الإسلام لتحقيق طموحاتهم التي أشار إليها أستاذي الدكتور علي الدين هلال في مقاله في بوابة "العين الإخبارية" يوم الأربعاء 26 فبراير/شباط الماضي، وكذلك تفعل إيران في توظيف المذهب لإعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة