خلال السنوات الماضية ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات الأخبار بتنبؤات اختصاصيين في علم "البار سيكولوجي" ومتبصّرين بالمستقبل، فأكدوا أن سيناريو نهاية العالم بات حتميا.
هذه التنبؤات تأتي استنادا إلى سياق علمي وتاريخي ارتبط بتقاويم الحضارات القديمة مثل "حضارة المايا".
فقبل سنوات نشرت صحيفة "ميرور" البريطانية تأكيداتٍ تزعم فيها أن نهاية العالم ستكون في 2019، ولم يحدث شيء! وسبق ذلك أخبار عدة أن الأرض فعليا في طريقها نحو الزوال سنة 2013، ومؤخرا وردت تأكيدات أن كويكبا سيضرب الأرض في 2022.
في حال تأكيد هذه التنبؤات.. ماذا سيكون تأثير ذلك في الناس؟ وما الذي سيفعلونه في ساعات حياتهم الأخيرة؟
لعل ذلك ما يدفعنا إلى التساؤل حيال طبيعة البشر والعوامل التي تدفعهم للشعور بالتعاسة أو عدم الرضا، فـ"الهشاشة الإنسانية" تجعلهم ضعفاء أمام خيبات الألم المتكررة ومساومات الصداقة المبنية على المصلحة وآلام الحب المخذول وغيرها من عوامل متضافرة.
وطُرح عبر صحيفة فرنسية في القرن التاسع عشر هذا السؤال على القراء، فتمَحْورت غالبية إجاباتهم حول محورين:
الأول "الذهاب إلى أقرب كنيسة للصلاة"، والثاني "الذهاب أقرب غرفة نوم".
فالناس إما يتخلّون عن تحفظاتهم وكوابحهم ما دامت أفعالهم لن يكون لها أي عواقب بعيدة المدى، فيما قد يستغرق آخرون في ممارسة طقوس دينية تُهيئ أرواحهم للانتقال إلى حياة أخرى.
الفرنسي مارسيل بروست أجاب بذكاء عن السؤال السابق قائلا:
"الحياة ستبدو رائعة لنا فجأة لو كان ثمة تهديد بموتنا كما يقولون، فكّروا فحسْب في كم المشاريع والرحلات وعَلاقات الحب والدراسات التي بسبب كسلنا نؤجلها باستمرار، نظرا لثقتنا الراسخة بأننا سنفعل ذلك مستقبلا.. لن نفوت زيارة متحف اللوفر، وسنرمي بأنفسنا عند أقدام مَن نحب، وننطلق في رحلة اكتشاف أنفسنا في الشرق، لكن الكارثة لا تحدث، ويقضي الكسل على الرغبة المشتعلة في الحياة، ألا يكفي التفكير بأننا بشر وأن الموت قد يأتي هذا المساء؟".
هذه الفرضية كفيلة بتشخيص وعكة المرض الوجودي للبشرية، ولدفعنا إلى إعادة ترتيب أولوياتنا، فكلما سمعنا تكتكات الساعة وثوانيها، وكأن الموت يهمس في آذاننا "أنا أقترب"، تزداد أهمية حياتنا وقيمتها، وهو ما أكده الكاتب المصري نجيب محفوظ بقوله: "الموت هو الحارس الأبدي للسعادة".
التحدي، الذي يواجه الإنسان المعاصر، يكمن في انسياقه وراء خدعة الوهم، التي تكمن في البحث عن قصة تمنح حياته عُمقا، فالعقل يقتات ويعيش على ما يبني هُويته المزيفة، ويظن واهما أنه كلما زاد العمق زادت حياته أهمية، وهو ما دفع بطلة قصة "باتريك زوسكند" إلى الانتحار، بعد أن علّق أحد النقاد على عملها الفني التشكيلي بأنه "يفتقر إلى العمق".
هذا النقد، الذي كان يرمي من ورائه الكاتب -بحسن نية- إلى تطوير أدواتها الفنية، أصاب صاحبة العمل الفني بلوثة عقلية سببها الهوس في البحث عن العمق، حتى تداول مجتمع المثقفين هذا النقد كـ"مُسلّمة" بأنها "فنانة موهوبة لكنها تفتقر إلى العمق"، وفي النهاية دفعها "هوس العمق" هذا إلى وضع حدًّ لحياتها.
تتفاقم هُوية العمق الزائف، التي يظل يبحث عنها الإنسان في عصر الميديا وآلتها الرقمية، وتبرز الحالة الفصامية الصراعية للشخصية بين حاجتها إلى العمق المُزيف، وما يُمارَس عليها من قهر وضغط إعلاني وتسويقي بحثًا عن الكمال، بعد أن تم تحرير هذا الجسد من "تابوه" المجتمع والعادات والتقاليد، ليصطدم بسجن جديد أمام وجهه، يحدد سقفنا الوجودي كبشر، فهذا الرمز الفيزيائي الذي تكمن وراءه أسرار جوهرنا الروحي أضحى المصدر المُحتفَى به في "كرنفال الحياة".
كل ذلك يدفعنا للتساؤل عن كيفية عيشنا أصحاء سالمين في مجتمع ينحو إلى الجنون الاستهلاكي، ويعتقد أنه يتحرك إلى الأمام، لكنه يدور في فراغات دائرية لا متناهية.
غالبية خبراء اليقظة الروحية يؤكدون أن أعظم إنجازات البشرية لا تكمن في ثمار حضارتها الرقمية وتقدمها، بل يكمن في إدراكها خللها العقلي البشري، ولعل ذلك ما نستطيع أن ننطلق من خلاله كبداية حقيقية لتشافي هذا العقل، الذي يحتاج إلى عملية جراحية تنقذه من براثن البؤس.
والشاهد على ذلك ما يرتبط بإدراكنا منذ الصغر لما سنؤول إليه بعد الحياة، ولخّصته الكاتبة الأمريكية "مايا أنجلو" في مسرحيتها "ولا زلت أحيا"، والتي تدور حول شخصيتين "رجل وامرأة" يموتان ويجدان نفسيهما في غرفة انتظار، يظهر أمامهما مخلوق غريب، فيبادره الرجل الذي يدعى "زبيديا" قائلا: "أعلم مَن تكون.. إنك حارس الباب.. وستأخذنا إلى مكان ينبغي أن نذهب إليه، إما الجنة وإما النار".
وتضيف المرأة وتُدعى "آنابيل": "أعلم أنني لم أنجح، ولكنني حاولت جاهدة أن أعيش حياة جيدة ونظيفة وأن أكون طيّبة وعادلة".
يضحك المخلوق الغريب ويُطلق قهقهاتٍ عالية قائلا: "يصيبني الذهول، وحتى الإجفال، من واقع الخيال البشري الواسع، أنتما تظنان أن أمامكما اتجاهين فحسب، الجنة أو النار، ولكن المستقبل لكل منكما وحده فيه أكثر من ثمانمائة اتجاه".. فيغنيان أنشودتهما:
قريبًا سأنتهي من قلق العالم..
إنني عائد لموطني لأقابل ربي..
حيث لا دموع ولا أنين..
ولا تأوه ولا بكاء..
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة