لم تعد أرقام إصابات كورونا تصيب الناس بالذعر كما كان الأمر حين تفجَّر الوباء مطلع العام الماضي وفي هذا مكمن الخطر.
كورونا حاليا يُقلق الحكومات أكثر من الشعوب بكثير، ومصدر القلق الحكومي هو احتمالات أن تؤدي الإصابة إلى دخول أعداد كبيرة جدا المستشفيات، فلا تتحمل الأنظمة الصحية وتنهار أمام نقص الأسرّة وعبوات الأكسجين والكوادر الطبية.
لقد توسعت كثير من الدول، وبخاصة المتقدمة منها، في قدرة أنظمتها الصحية على استيعاب أعداد كبيرة من المرضى، ولكن التوسعة لم ولن تكون بحجم جائحة تضرب ملايين البشر.
وبالتالي الخوف من صور المصابين وهم يملؤون المستشفيات ويفترشون الشوارع ستبقى تلاحق الحكومات وتخيفهم باستمرار.
في المقابل، تخلصت الشعوب من الـ"كورونوفوبيا" -إنْ جاز التعبير- فالتظاهرات ضد الإغلاق شكّلت نوعا من التحرر من هذا العُصاب الفيروسي، رفض التطعيم بعدد لا نهائي من الجرعات تمردت عليه كثير من الشعوب أيضاً، ناهيك برفض ارتداء الكمامة في كل زمان ومكان، ما يعرض عموم البشر إلى كارثة ربما تودي بحياة الملايين، فضلا عن معارضة تقييد الشركات ووقف الأعمال وإرسال الأولاد إلى مؤسسات التعليم بكل مراحله.
هذه الممارسات العفوية من الناس باتت تربك الحكومات، وخاصة في الدول التي تستغل فيها المعارضة أي مستجدات للوباء للنَّيْل من الأحزاب الحاكمة، وما يزيد الأمر تعقيدا هو تلك التصريحات والمواقف المتباينة حد التناقض أحيانا، من الأطباء والمختصين والجهات المعنية المحلية والدولية، مع ظهور سلالة جديدة لكورونا.
ثمة أمر آخر يصعّب على الحكومات تجاوز "فوبيا" كورونا، وهو المنافسة بين شركات الأدوية على لقاحات المرض وعلاجاته. فهذه الشركات لها تأثير كبير على قرارات السلطات الرسمية، وهي تتمتع بنفوذ أيضا لدى المنظمات الدولية المختصة، بالإضافة إلى أنها تستغل حاجة الدول إلى احتواء كل متحوِّر جديد يظهر للفيروس.
لا تستطيع الحكومات أن تمارس الاستهتار بالوباء، فهي مطالبة بحماية الشعوب ومؤسسات الدولة والأنظمة الصحية، وهي في هذا ملزمة بإجراءات وقوانين واجبة التطبيق، حتى وإنْ تعارضت مع "استهتار" الأفراد، لكن الشرط الأساسي في كل هذا أن يكون كل فعل للحكومات مستندا إلى معلومات طبية مؤكدة من جهة، ومنطقية في مراعاة ما أنجز في مواجهة الجائحة على مدار نحو عامين متواصلين من جهة أخرى.
قبل كل شيء يجب أن تعترف الحكومات بأن كورونا لم يعد إشارة استفهام مظلمة.. فقد خاضت الدول منفردة، أو مجتمعة، حربا شرسة مع الجائحة وراكمت خبراتٍ وتجاربَ كبيرة في التعامل مع الفيروس. صحيح أنها لم تقضِ عليه، ولكنها حاصرته وتعمّقت في بنيته وأسبابه وآثاره الجانبية.
هناك أدوية ولقاحات ناجعة أُنتجت لهذا الفيروس.. بفضلها بعض سلالاته باتت بحكم الماضي الآن، والسلالات الجديدة ليست أوبئة قائمة بذاتها.. المقارنة بين نسبة الوَفَيات إلى الإصابات اليوم مع النسبة ذاتها خلال النصف الأول من العام الماضي تؤكد الأمر وتقول إن العلماء والأطباء راكموا ويراكمون الخبرة في مواجهة الوباء، لكن هذا لا يعني التخلي عن الحذر، ففي هذا التخلي من قبل الأفراد عن الإجراءات الاحترازية بلاء كبير ربما يستتر وراء الاستهتار والتخاذل في مواجهة من نظن أنه قد ضعف.
الاعتراف بتجاوز الشعوب لفوبيا الجائحة أمر لا بد أن تأخذه الحكومات بعين الاعتبار أيضاً.. فلم يعد الناس يهرولون إلى المستشفيات بمجرد شعورهم بعارض لكورونا، حتى إن كثيرين يرفضون الإفصاح عن أعراضهم خوفا من الحجر.. ناهيك بمن يرفض التطعيم بعدما بات واضحاً أن الوباء ليس قاتلا إلا في حالات لها أسبابها.
تجاهُل الناس للوباء أو الاستخفاف بوجوده حولهم يعبر عن نقص الوعي الصحي، فكثيرون في الغرب المتقدم يعارضون كل إجراءات الإغلاق والعزل، يرفضون أخذ اللقاح، يمتنعون عن ارتداء الكمامات، يصرون على لقاء عائلاتهم وأصدقائهم وممارسة حياتهم وأعمالهم.. لكن لا بد من إيجاد وسائل أخرى توازن بين متطلبات حرية الإنسان ودوران عجلة الإنتاج وفي الوقت نفسه تأكيد حماية الإنسان لذاته من خطر موت محقق.
الاعتراف بالضرر الكبير للإغلاق والحجر أساسي في معايير صياغة الحكومات لسياساتها تجاه التعامل مع الوباء.. ليس فقط ذلك الضرر الاقتصادي الذي تعجز دول كثيرة حول العالم عن احتوائه، وإنما أيضا الأضرار النفسية والاجتماعية التي ألمّت بالشعوب بسبب أشهر من منعها ممارسة التسوق والعمل والتعليم والسياحة وغيرها.
قبل أقل من شهرين صدرت دراسة لتقييم تداعيات الوباء نفسيا في مائتين وأربع دول، تقول إن مرَضَيْ الاكتئاب والقلق زادا حول العالم بأكثر من الربع خلال عام 2020، الذي شهد التفشي الأكبر لكورونا.. فكانت هناك زيادة بمعدل 76 مليون حالة لاضطرابات القلق، و53 مليوناً للاكتئاب الشديد، وكلها على صلة بانتشار وباء كوفيد-19.
منظمة الصحة العالمية تقول إن العاملين في الرعاية الصحية والخطوط الأمامية لمواجهة الوباء كانوا من أكثر الفئات تضررا بآثاره النفسية.. ومن هذه الفئات أيضا الطلاب والأشخاص الذين يعيشون بمفردهم، بالإضافة إلى أولئك المصابين بحالات صحية نفسية أصلاً وتعطَّل علاجُهم خلال مراحل الإغلاق الطويلة من أزمة الجائحة.
ثمة خشية أيضا من عجز عشرات الملايين في الدول الفقيرة عن الحصول على التعليم إذا ما كان عن بُعد ويعتمد على تقنيات لا تتوفر لديهم. أما البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، فيقولون إن الجيل الحالي من الطلاب معرّض لخسارة نحو 17 تريليون دولار من دخله، أي ما يقارب 14 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بسبب تلك الاضطرابات التي لحقت بأنظمة التعليم المختلفة والحصص الدراسية من جراء أزمة وباء كورونا.
سواء بلُغة الأرقام أم بغيرها، باتت الشعوب مدركة جيداً لأضرار الإغلاق والعيش في ظل "فوبيا" كورونا، وبالتالي أصبح الناس ينتظرون من الحكومات إجراءات أكثر مرونة في التعامل مع المرض، ويتوقعون منها إيجاد خيارات علمية لمواجهة الفيروس لا تقتضي تعطيل حياة البشر، ولا استمرار تخويفهم من بُعبع الجائحة.
يقول الفيلسوف أرسطو "إن الخوف ألمٌ نابع من توقع الشرّ"، والناس لم تعد تتوقع شرًّا مهولاً من كورونا بعد ما عانته البشرية في مواجهة الوباء على مدار نحو عامين.. صحيح أن الوباء ترك ندباً صحية ونفسية لكثيرين، ولكن الطبيعة المستمرة للحياة ستساعدهم على تجاوزها بشرط عدم التخلي عن حذرهم وإجراءاتهم، كما أنها ستمنع أي إمكانية لاستمرار خوف البشر من الفيروس، إلا طبعاً إنْ تعمد أحدهم تجديد هذا الخوف بين الحين والآخر لغاية ما في نفسه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة