الجاسوسة ماتا هاري.. "عين الفجر" التي "قتلت" 50 ألف فرنسي
رفضت عصب عينيها وابتسمت بوجه جلاديها حين جاءوا لإعدامها فأربكتهم بهدوئها، نهرها أحدهم لكنها تجاهلته ورفعت عينيها إلى السقف ثم أغمضتهما.
هذا ما رواه أحد هؤلاء الجلادين ممن بقيت الحادثة عالقة بذهنه عن لحظة إعدام مارغريتا زيل، المعروفة باسم شهرتها "ماتا هاري"، الراقصة والجاسوسة التي أعدمت في 15 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1917.
أغمضت ماتا عينيها إلى الأبد وأنزلت عناصر فرقة فرنسية للإعدام جثمانها ليسدل الستار على حياة إحدى أشهر الجاسوسات التي ألهمت حياتها الأدباء والشعراء، وأذهلت لحظة إعدامها جلاديها.
رحلت ماتا وحملت معها صندوق أسرارها الذي يعتقد كثيرون أن ما باحت به أو ما كشف عنه لا يضاهي ربع ما يزخر به من خفايا تطال السياسيين في أكثر من دولة، فيما يظل السواد الأعظم من سيرتها محاطا بالغموض.
كانت راقصة محترفة وعاملة خدمات جنسية، بحكم تعاملها مع جميع الطبقات، واستطاعت نسج شبكة علاقات مع شخصيات نافذة لتصبح جاسوسة لفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، قبل أن تنتهى حياتها للاشتباه في كونها عميلة مزدوجة.
في البداية، اعتقد البعض أن كل ما تفعله كان مجرد ثرثرة مع ضباط على جانبي جبهة القتال في الحرب العالمية الأولى، قبل أن يتم اكتشاف حقيقتها المذهلة وفق ما ذكره راسل وارين مؤلف كتاب "ماتا هاري: القصة الحقيقية".
ابنة تاجر قبعات
ولدت عام 1876 في هولندا، وهي ابنة تاجر قبعات راجت تجارته لفترة قبل أن يفلس ويجد نفسه عاجزا عن إعالة أسرته.
أمام وضع عائلته المتردي، لم يكن أمام مارغريتا سوى الزواج بسن الـ18، كانت تريد الهروب من جحيم الفقر المستجد بأي ثمن، ووجدت ضالتها في ضابط بالجيش الاستعماري الهولندي.
وبحكم عمل زوجها في إندونيسيا التي كانت تسمى آنذاك جزر الهند الشرقية الهولندية، استقر الزوجان هناك، لكن زواجهما لم يكن سعيدا بسبب الخيانات من الطرفين، وذلك رغم إنجابهما طفلين توفي أحدهما عقب ولادته.
بعض الروايات تقول إن الزوج كان يصاب في بعض الأحيان بنوبات غضب هستيرية تجعله يعتدي جسديا على زوجته وحتى على ابنه، ومع غياب الإخلاص، بدا أن الزواج يمضي نحو نهايته.
وبالفعل، انفصل الزوجان لدى عودتهما إلى أوروبا في 1902، واستقرت مارغريتا في باريس، هناك حيث بدأت مرحلة جديدة من حياتها، وقدمت نفسها على أنها راقصة تعرّ من أصول شرقية، وأطلقت على نفسها اسم ماتا هاري أو "عين الفجر" في لغة الملايو الأصلية بإندونيسيا.
ومع نوعية رقصها الإباحي الذي لم يكن معروفا بعد في ذلك الوقت، نجحت ماتا في استقطاب الاهتمام وباتت مطلوبة بشكل لم تحصل عليه غيرها من الراقصات من بنات جيلها.
كانت تتمتع بسحر خاص في شخصيتها وبراعة في الحديث بطلاقة بعدة لغات، فحققت نجاحا باهرا أيضا كعاملة للخدمات الجنسية، واستطاعت إغواء الأثرياء والشخصيات النافذة، بما في ذلك كبار المسؤولين الحكوميين من مختلف الدول.
نفوذ
لم تواجه ماتا خلال الحرب العالمية إشكال عبور الحدود والسفر، فلقد كان موطنها محايدا ما منحها تأشيرة عبور لأي مكان تختاره، لكن مع الوقت أُثيرت حولها الشكوك فيما يتعلق بالتجسس، خصوصا أن من بين أحد أكبر عشاقها وزبائنها الدائمين كان الرائد أرنولد كالي، الملحق العسكري الألماني.
وهذه الفترة بالذات تبدو غامضة في مسيرتها، إذا لا أحد بإمكانه أن يعرف على وجه الدقة ما إن كانت علاقتها بالملحق العسكري الألماني قد بلغت نقطة الانكشاف، أي أنه تم كشفها من قبل المسؤول العسكري، أم أنه ملّ منها فقرر التخلص منها.
وفي الحالتين، قرر كالي التخلص منها، فاستخدم رمزا يعرف أن الفرنسيين اخترقوه، وأرسل رسالة لألمانيا قام بتعريفها خلالها على أنها جاسوسة لألمانيا.
ولاحقا، تم القبض عليها بفندق فخم بباريس في فبراير/ شباط عام 1917، وجرت محاكمتها المغلقة بعد خمسة أشهر، وكانت المفاجأة حين ألقى المدعي العام باللوم عليها في مقتل 50 ألف جندي فرنسي خلال الحرب.
وهكذا، حكم عليها بالإعدام وأنهت مشنقة خارج باريس حياتها لتضع نقطة نهاية لامرأة كانت مؤثرة بطريقة أو بأخرى في تلك الفترة، وألهمت حياتها الكتب والأفلام والمسرحيات الموسيقية والباليه، واختارها الكاتب العالمي باولو كويلو بطلة روايته "الجاسوس: رواية ماتا هاري".