بعد 1400 عام.. مبادئ "العهد النبوي" تظلل بنود "وثيقة مكة"
"وثيقة مكة" أقرها 1200 شخصية إسلامية من 139 دولة، في ختام مؤتمر الوسطية والاعتدال الذي استضافته السعودية.
استلهاما للمبادئ النبوية والبنود الإيمانية الداعية إلى المساواة والعدل وحرية العقيدة التي تضمنتها "صحيفة المدينة المنورة" التي أصدرها النبي صلى الله عليه وسلم قبل 14 قرناً، جاءت "وثيقة مكة المكرمة"، الصادرة أمس الأربعاء، يظللها المبادئ الروحية والقيم الإيمانية نفسها.
و"وثيقة مكة المكرمة" أقرها 1200 شخصية إسلامية من 139 دولة، في ختام مؤتمر الوسطية والاعتدال الذي استضافته مكة.
وتعد بمثابة دستور تاريخي يرسي قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب في البلدان الإسلامية من جهة، وتحقيق السلم والوئام بين مكونات المجتمع الإنساني كافة من جهة ثانية.
أما "صحيفة المدينة" فقد وضع بنودها نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- عندما هاجر من مكة إلى المدينة في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م، لحفظ تنوع الدولة الإسلامية وتعايشها باختلاف مكوناتها.
وتعد صحيفة المدينة أو دستور المدينة، أو كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو العهد النبوي، وكلها أسماء وضعت لوصف أول دستور مدني متكامل في التاريخ أرسى قواعد المواطنة وثبت أركان العدل بين مكونات المجتمع وطوائفه، أكثر الأدلة وضوحا على سماحة الإسلام في التعامل مع المخالفين له في الاعتقاد، بل وأول وثيقة حقوقية، وعقد مواطنة متقدم على عصره.
"صحيفة المدينة" التي تعد أول دستور مدني متكامل في التاريخ كانت حاضرة في مبادئها النبوية وبنودها الإيمانية في "وثيقة مكة المكرمة" التي تعد بدورها أول وثيقة في العصر الحديث يجمع عليها هذا العدد من علماء الأمة، 1200 شخصية إسلامية من 139 دولة يمثلون سبعاً وعشرين مكوناً إسلامياً من مختلف المذاهب والطوائف.
المرجعية
وكما أكدت صحيفة المدينة أن المرجعية في الحكم إلى الشريعة الإسلامية، في البند الذي يقول “وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره”، جاءت وثيقة مكة تؤكد على المرجعية نفسها.
وأقرت "وثيقة مكة" السعودية مرجعية روحية للعالم الإسلامي بوصفها "قبلة" لهم، وعلماء الأمة الإسلامية.
وشددت في هذا الصدد وثيقة مكة "على أنه لا يُبْرِمُ شــأنَ الأمة الإسلامية، ويتحدَّثُ باسمها في أمرها الدينيّ، وكل ذي صلة به إلا علماؤها الراسخون في جمع كجمع مؤتمر هذه الوثيقة، وما امتازت به من بركة رحاب قبلتهم الجامعة، فالعمل الديني والإنساني المشترك الهادف لمصلحة الجميع يلزم تشارك الجميع دون إقصاء أو عنصرية أو تمييز لأتباع دين أو عرق أو لون".
وحددت الوثيقة مبادئ تدور في رحابة الوسطية والاعتدال، لا الغلو والتشدد.
الأخوة الإنسانية
وتتوجه الكثير من بنود "صحيفة المدينة" إلى اليهود وإلى تنظيم العلاقة الاجتماعية والإنسانية معهم، كما تتوجه بنود أخرى إلى تنظيم العلاقة بين المسلمين أنفسهم (مهاجرين وأنصار)، في بنود خلت في لغتها وفي توجيهها وتعاليمها تماما من لغة الوعيد والتهديد والإجبار.
واستلهاما من روح صحيفة المدينة، والمبادئ التي تجمع الأديان السماوية وجوهرها التسامحي والتعايشي جاءت وثيقة مكة المكرمة لتؤسس عددا من مبادئ ترتكز في محورها على الأخوة الإنسانية والمساواة ونبذ العنصرية والاستعلاء.
وتؤكد وثيقة مكة في هذا الصدد على أن "البشر على اختلاف مكوناتهم ينتمون إلى أصل واحد، وهم متساوون في إنسانيتهم، رافضين العبارات والشعارات العنصرية، والتنديد بدعاوى الاستعلاء البغيضة؛ إذ الاختلاف بين الأمم في معتقداتهم وثقافاتهم وطبائعهم وطرائق تفكيرهم قَدَرٌ إلهي قضت به حكمة الله البالغة".
وتبين أن "الإقرار بهذه السُّنَّة الكونية والتعامل معها بمنطق العقل والحكمة بما يوصل إلى الوئام والسلام الإنساني خير من مكابرتها ومصادمتها".
حرية العقيدة
مبدأ حرية الاعتقاد تضمنته صحيفة المدينة الصادرة قبل 1400 عام في البند الذي جاء فيه "وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته"، وهذا فيه ضمان للحريات الأساسية للأفراد، وعلى رأسها حرية الاعتقاد، وهو مبدأ يهدم الكثير من الأسس التي تبني عليها الجماعات الإرهابية هجماتها.
وجاءت صياغة هذا المبدأ واضحة في وثيقة مكة المكرمة، في أكثر من موضع، حيث تقول "إن التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية لا يُبرر الصراع والصدام، بل يستدعي إقامة شراكة حضارية إيجابية، وتواصلاً فاعلاً يجعل من التنوع جسراً للحوار، والتفاهم، والتعاون لمصلحة الجميع، ويحفز على التنافس في خدمة الإنسان وإسعاده، والبحث عن المشتركات الجامعة، واستثمارها في بناء دولة المواطنة الشاملة، المبنية على القيم والعدل والحريات المشروعة، وتبادل الاحترام، ومحبة الخير للجميع، مع احترام تعدد الشرائع والمناهج، ورفض الربط بين الدين والممارسات السياسية الخاطئة لأي من المنتسبين إليه".
ودعت "وثيقة مكة المكرمة"، إلى الحوار الحضاري بصفته أفضل السبل إلى التفاهم السوي مع الآخر، والتعرف على المشتركات معه، وتجاوز معوقات التعايش.
وطالبت الوثيقة، بسن التشريعات الرادعة لمروجي الكراهية، والمحرضين على العنف والإرهاب والصدام الحضاري، مؤكدة أن ذلك كفيل بتجفيف مسببات الصراع الديني والإثني، كما أدانت الاعتداء على دور العبادة، معتبرة أنه عمل إجرامي يتطلب الوقوف إزاءه بحزم تشريعي، وضمانات سياسية وأمنية قوية، مع التصدي اللازم للأفكار المتطرفة المحفزة عليه.
كما دعت إلى مكافحة الإرهاب والظلم والقهر، ورفض استغلال مقدرات الشعوب وانتهاك حقوق الإنسان، مشددة على أن ذلك واجب الجميع من دون تمييز أو محاباة.
الإسلاموفوبيا
وحذرت وثيقة مكة من أن ظاهرة "الإسلاموفوبيا" وليدة عدم المعرفة بحقيقة الإسلام وإبداعه الحضاري وغاياته السامية، وأن التعرف الحقيقي على الإسلام يستدعي الرؤية الموضوعية التي تتخلص من الأفكار المسبقة، لتفهمه بتدبر أصوله ومبادئه، لا بالتشبث بشذوذات يرتكبها المنتحلون لاسمه، ومجازفات ينسبونها زوراً إلى شرائعه.
وأكدت "وثيقة مكة المكرمة" على ترسيخ القيم الأخلاقية النبيلة، وتشجيع الممارسات الاجتماعية السامية، والتعاون في التصدي للتحديات الأخلاقية والبيئية والأسرية وَفْقَ المفاهيم الإنسانية المشتركة، والحذر من الاعتداء على القيم الإنسانية وتدمير المنظومات الاجتماعية، بمسوّغ الحرية الشخصية.
وأوصت الوثيقة "بعدم التدخل في شؤون الدول مهما تكن ذرائعه المحمودة؛ فهو اختراق مرفوض، ولا سيما أساليب الهيمنة السياسية بمطامعها الاقتصادية وغيرها، أو تسويق الأفكار الطائفية، أو محاولة فرض الفتاوى على ظرفيتها المكانية، وأحوالها، وأعرافها الخاصة، إلا بمسوّغ رسمي لمصلحة راجحة".
الوسطية والاعتدال
وشددت "وثيقة مكة المكرمة"، على تحصين المجتمعات المسلمة، والأخذ بها نحو مفاهيم الوسطية والاعتدال، والحذر من الانجرار السلبي إلى تصعيد نظريات المؤامرة، والصدام الديني، والثقافي، أو زرع الإحباط في الأمة، أو ما كان من سوء ظن بالآخرين مجرد أو مبالغ فيه.
ودعوا إلى احترام المواطنة الشاملة، كونها استحقاقا من الدولة تمليه مبادئ العدالة الإسلامية لعموم التنوع الوطني، وعلى مواطنيها واجب الولاء الصادق، والمحافظة على الأمن، والسلم الاجتماعي، ورعاية حمى المحرمات والمقدسات.
ويأتي هذا البند مستلهما أيضا مما ورد في ختام "صحيفة المدينة"، التي أسست لمفهوم المسؤولية والحرية فكل مسؤول عن عمله، فرداً وجماعة، لا يؤاخذ واحد بوزر واحد، ولا أمة بوزر أمة، وهذا ما عنته "الوثيقة" في الفقرة قبل الأخيرة من البند الذي نص على أنه "لا يكسب كاسب إلا على نفسه".
ومن منطلق تلك المسؤولية جاء في وثيقة مكة "على مواطنيها واجب الولاء الصادق، والمحافظة على الأمن، والسلم الاجتماعي، ورعاية حمى المحرمات والمقدسات".
وما بين "صحيفة المدينة" التي تعد أول دستور مدني متكامل في التاريخ صدر قبل 1400 عام، وبين "وثيقة مكة" الصادرة قبل ساعات والتي تعد بمثابة دستور تاريخي يستلهم مبادئه وبنوده من النهج النبوي، يبقى على الجميع تحمل مسؤوليته في تفعيل بنود تلك الوثيقة كل فيما يخصه لإرساء قيم التعايش والوئام والوسطية والاعتدال والعدالة في العالم أجمع.